فما هو الإسلام ؟
تعريفُ الإسلامِ في حديثِ جبريلَ الشهير الذي رواهُ الشيخان وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , فمن جملةِ ما سأل جبريلُ عليه السلامُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (( قال يا رسول الله ما الإسلامُ ؟ قال الإسلامُ : أن تعبدَ الله ولاتُشْرِكَ به شيئا وتقيمَ الصلاةَ المكتوبةَ وتؤديَ الزكاةَ المفروضةَ وتصومَ رمضانَ ))
(( أن تـعـبـدَ اللهَ ولا تـُشـركَ بـهِ شـيـئـاً ))
وقد دلَّ القرآنُ كلُّهُ وما صحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه باللفظِ والمعنى : أنَّ العبادةَ هي الـطـاعـةُ للهِ وحدَهُ لا شريكَ له , وأنَّ طاعتك للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هي لأنه رسولُ اللهِ , يبلغُ أوامرَ اللهِ تعالى
فقال تعالى (( من يطع الرسول فقد أطاع الله ))
لكنَّ أكثر الناس يفهمون الطاعةَ فهماً خاطئاً
فما المقصودُ بالطاعةِ ؟
والطاعة لغة هي الانقياد والتسليم وهذا أيضا هو معنى الإسلام لغة وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )) أي له انقاد من في السموات ومن في الأرض
و بقسمةٍ عقليةٍ بسيطةٍ , نجد أنَّ الطاعةَ تتطلبُ ثلاثةَ أركانٍ :
الركن الأول : مطاع وهو إما أن يكونَ : اللهُ تعالى وحده لا شريك له , أو أن يكون الطاغوت , قال تعالى (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ )) والطاغوتُ هو كلُّ معبودٍ غير الله , وهي مشتق من مشتقاتٍ الفعل (( طغى )) وهي مجاوزة الحد قال تعالى (( اذهب إلى فرعون إنه طغى )) وهو الشيطان لأنه الداعي الأول لعبادة غير الله , فمن أخذ عقيدته وعبادته عن غير الله فقد عبد الطاغوت
الركن الثاني : مُطِيْعُُ وهو العبدُ , فهو إما مطيعُُ لله وحده أو مطيعُُ للطاغوت
الركن الثالث : القولُ أو الفعلُ المأمورُ به من المُطاعِ إن كان أمراً بفعل أو المنهي عنه إن كان نهياً عن فعل .
وبالنظر في الركنِ الثالثِ وهو المأمورُ به أو المنهيُّ عنه من جهة مصدريته نجد أنه على قسمين : إما أن يكون صادرا من الله أو صادرا من الطاغوت , فالعابد لله في انتظار أن يبلغه قول الله حتى يفعل وهو في الآية الإذن بالفعل
فإن انعدم الركنُ الثالثُ في مسألة من المسائل العقائدية أو التعبدية , بأن لم يقل الله فيها قول بالأذن (( أن نعتقد اعتقادا ما أو نعبده بعبادةٍ ما لم يشرعها )) , ثم أتى من البشر أحدُُ واستحسن اعتقادا معيناً أو عبادة معينة , هذا الذي جاء بهذا فإنه بمثابة مشرع , أعطى نفسه حقا ليس له , هذا من ناحية , من ناحية أخرى فإن من أطاعه (( عالما أن هذا ليس من شرع الله بل هو من صنع البشر وعالما أن الله يكفر من فعل هذا )) فهذا قد اتخذه شريكا لله , فينطبق عليه الوصف العام في الآية (( أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) فهو قد حقق كلَّ شئٍ نصت عليه الآية : فهو قد اتخذ شريكا قد شرع له من الدين ما لم يأذن به الله , وانظر أخي القارئ اللبيب إلى تلك اللطيفة في قوله تعالى (( ما لم يأذن به الله )) أي : لم يرضه الله , لم يرض أن يشرع للبشر هذه التشريعات التي شرعها هؤلاء الشركاء , فهو لن يأذن ولن يأذن أبدا, ولتسأل نفسك : لما لم يأذن به الله ؟ الجواب : لأنه لا يليق بالله أن يأذنَ بما فيه فساد وخلل , فـ (( ما )) تشمل كلَّ تشريع غير تشريع الله في العقيدة والعبادة والمعيشة (( لم يأذن به )) لأنه لو أذن به لاختل نظام الكون (( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ )) و (( لم يأذن به )) أي منعه , فالله بكل شئ عليم , وقد علم أن هذا باطل فلم يشرعه
وإن الدين قد اكتمل بنزول قوله تعالى (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) وقد قال الإمام مالك رحمه الله : من أتى بشئ زائد بعد هذا الآية فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة
وقال الشافعي رحمه الله : من استحسن فقد شرع
ثم قال جلَّ جلالُهُ ليحكم حكما يشملُ كلَّ من كان هذا وصفه (( وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
مما سبق نصلُ إلى هذا الأصل الكبير ألا وهو :
الدينُ هو قال اللهُ قال الرسولُ
فإذا جاءنا أحدُُ بشئٍ في العقيدة أو العبادة فإننا نقول له : من أين أتيتَ بما تقولُ ؟ فإما أن يثبت لنا أن الله أمر به أو النبيُّ صلى الله عليه وسلم قاله فيما صح عنه و إلا رُدَّ كلُّهُ , وقد روى مسلمُُ في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ))ُ , أي مردود عليه عمله , فلا يقبله الله , وهذا المعنى قد تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم , فمن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه روى البخاري : (( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )) والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) فهذا وصفُُ عامُُ قُيِّدَ له حكمُُ عامُ ُ , فكلُّ من رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فإنه ليس منه , وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه كما في صحيح سنن ابن ماجه والسلسلة الصحيحة للشيخ الألباني ما نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك , من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً , فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ )) و كذلك حديث خطبة الحاجة الذي ورد عن ستةٍ من الصحابةِ , فقد ذكر العلامة الألباني في كتابه (( خطبة الحاجة التي كان رسول الله يعلمها أصحابه )) أن هذا الحديث ورد عن ستةٍ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عبد الله بن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ،ونبيط بن شريط ، وعائشة ، رضي الله عنهم وعن تابعي واحد وهو الزهري , والحديث رواه مسلم وغيره , فمن جملة الحديث الذي رواه مسلمُُ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) وقد ذكر الشيخ الألباني في كتابه (( صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم )) أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد , كلهم أجمعون قالوا : لا يحقُّ لأحدٍ أن يأخذ من أقوالنا ما لم يعلم من أين أخذناه , وهذا ما كان عليه أهل السنة جميعاً بدأ من الصحابة رضوان الله عليهم حتى زماننا هذا وهم الفرقة الناجية بنص الحديث (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ))
انطلاقا من هذا الأصل الأصيل الذي هو كالشمس في ضحاها نقول :
إن الأمور العقائدية والتعبدية توقيفية فلا اعتقاد إلا بنص ولا عبادة إلا بنص وأن أي عالم مهما كان شأنه فإن قوله يحتاج إلى دليل , وأن نسأله لما قلت بكذا ؟
من هنا أكون قد فرغت بعون الله من بيان تأصيل الأصل الواجب الاتفاق عليه بين كلِّ متجادلين في كل أمر من أمور الدين , قبل الخوض في الفروع , لأن الخوض في الفروع قبل الاتفاق على هذا الأصل إنما هو عبث وجدال عقيم وهذا هو منهج أهل السنة دائما كما بين فضيلة الشيخ أبي اسحاق الحويني في أكثر من موضع
فمن لم يعتقد هذا الأصل (( وهو أن الدين :قال اللهُ قال الرسولُ )) فقد خرج من العبودية إلى الفضاء الواسع إلى هواهُ فكان أمره فرطا , فهذا تكون مجادلته لإثبات هذا الأصل أولاً , فلا تكونُ معه مجادلة قط إلا لتأصيل هذا الأصل الكبير , يُجَادَلُ ليوَّحِدَ , فالتوحيد هو الأصل وما تحته فروعُُ له , وهذا هو أسلوب القرآن مع المشركين كافة , جادلهم بما عرفوا من ربوبية الله تعالى للعالمين وكونه الخالق واعترافهم بأنه الخالق وحده والضار والنافع وحده , جادلهم بهذا منكرا عليهم أن يعبدوا من دونه ما لا يضرهم ولا ينفعهم .
بعد بيان هذا الأصل أبدأ بعون الله تعالى في العرض لبعض أقوال الرجل وإبطالها بالدليل من القرآن والسنة
أولا : قولُهُ (( اللهُ واجب الوجود في كل مكان وزمان )) :
يرى الدكتور : أن الله في كل مكان وكل زمان , وقال لا يجوز أن تشير إلى جهة الفوقية قاصدا أن الله في السماء فالله في كل مكان وكل زمان ,
وأقول للدكتور ماذا تقصد بأن الله في كل مكان ؟ هل تقصد أنَّ الله في كل مكانٍ بذاته ؟ بمعنى أخر : هل الذاتُ الإلهية في كل مكان ؟ إذا كان الدكتور يقصد هذا فقد أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا
أما إن كان يقصد أن علم الله في كل مكان وأنه يسمع كل شئ ويبصر كل شئ إلى آخر أسماء الله تعالى وصفاته , فكان لزاما عليه وهو يدعي أنه من أهل اللغة أن يقول : علمُ الله يشمل كل مكان , و لأنه أمر عقائدي , لا يجوز فيه إلا الدقة في التعبير , لا أن نترك الناس متحيرة في فهم في هذا المعنى الجليل القدر
ولا أدري ماذا يقول الدكتور في قوله تعالى (( الرحمن على العرش استوى )) ؟
وفي قوله تعالى (( يخافون ربهم من فوقهم )) و (( وهو القاهر فوق عباده )) و قوله تعالى (( أ أمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )) و قوله تعالى (( إليه يصعد الكلم الطيب )) و (( تعرجُ الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ))
أ ليست هذه الآياتُ إثباتا لعلو الله على عرشه , وأنه فوق العرش بذاته جل جلاله , أم أنك ترى ما يرى المعتزلة و الجهمية معطلة الأسماء والصفات ؟
(( الرحمنُ على العرش استوى ))
قال شيخُ الإسلام بن القيم في كتابه (( الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة )) ما يلي :
الاستواء المطلق له عدة معان أما الاستواء المُعدَى بـ (( على )) فليس له إلا معنى واحد , واستوى عليه أي ارتفع عليه وعلا عليه ولا تعرف العربُ غير هذا , فالاستواء في هذا التركيب نصُُ لا يحتمل غير معناه وهو الفوقية والعلو
, وذكره أيضا العلامة الألباني في أكثر من موضع , والعرش هو سقفُ المخلوقاتِ , أي لا مخلوق فوق العرش , وكما قال عبد الله بن رواحه رضي الله عنه :
شـهدت بـأن وعـد اللـه حق وأن النـار مثـوى الكـافرين
وأن العـرش فـوق الماء طافٍ وفـوق العـرش رب العالمين
فالقول بأن الله تعالى على عرشه لا يعني أن الله يحويه مكان , لأن العرش هو آخر المخلوقات , والمكان مخلوق , ولا يعني أيضا أن العرش يحملُ العزيز القدير , بل العرش و السموات والأرض يمسكهم الله أن تزولا (( أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا )) فهو العزيزُ عن كلِّ خلقه جل جلاله .
الذي ينبغي علمه أن الله فوق العرش , لكن كيف استوى ؟ هذا هو المنهي عنه , فمن عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات : فهم المعنى وتفويض الكيفية إلى الله ربِّ العالمين , فهو العليمُ بذاته جل جلاله , وقد قال لنا تعالى (( ليس كمثله شئ )) أي أن ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله ليس كمثلها شئ , (( ليس كمثله شئُ ُ وهو السميعُ البصيرُ )) أي يسمع لا كسمع المخلوقات ويبصر لا كبصر المخلوقات , وكل صفاته كذلك , يجئ يوم القيامة للفصل بين العباد لا كمجئ المخلوقات , ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة لا كنزول المخلوقات , يغضبُ ويرضى لا كغضب ورضا المخلوقات , ثبتت له تعالى (( اليد , والقدم , والوجه , والعين ))
قال تعالى عن مجيئه يوم القيامة للفصل بين العباد (( وجاء ربُّكَ والملكُ صفاً صفاً ))
قال تعالى (( يا إبليس ما معنك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ ))
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثبتا (( الرِّجْلَ )) لله تعالى , وهو في صحيح البخاري , (( لا تزال جهنم تقول هل من مزيد , حتى يضع الجبار فيها رجله , فتنزوي وتقول قط قط )) فهذا إثبات صفة القَدَم لله تعالى ولكن دون تشبيه بأحد فهو (( لم يكن له كفوا أحد )) وأيضا بلا تكييف بأي شكل من الأشكال لأن هذه الأمور غيب عنا , نحن نؤمن بالمعنى كما أنزل
قال تعالى (( كلُّ شئٍ هالك إلا وجهه )) هذا إثبات الوجه
قال تعالى (( واصنع الفلك بأعيننا )) و قال تعالى (( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ))
كلُّ هذا في إطار (( ليس كمثله شئ )) فحذار من التشبيه وحذار من التعطيل , إذا الأمر وسطية تنزيه مع إثبات المعنى , لا أن نصرف اللفظ عن معناه كما يقول الدكتور ومن ذهب مذهبه
بل إن الدكتور في موضع آخر , في إحدى حلقات برنامجه الدين القيم وفي الحلقة 19 يقول من جملة ما قال , والكلام منقول بالنص (( الله تعالى في تعريفه واجب الوجود في كل زمان ومكان ولهذا يجب أن نصحح عقيدتنا ))