الرجل الحائط مجموعة قصصية للكاتبة ( قماشة العليان )

  • نعتذر عن الأخطاء التقنية في الموقع ، جاري العمل على إصلاحها

    هذا المنتدى وقف لله تعالى


غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0
aerf666.jpg


أمامي كتاب بعنوان "الرجل الحائط" للمؤلفة "قماشة العليان" عبارة عن مجموعة قصص تحكي عن واقعنا الحالي. سأنقل لكم القصص أن شاء الله أسبوعياً. نبتدأ بالقصة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم.

000000000000كفى يا ضميري00000000000000000

وقفت أمام الطبيبة ارتجف وكل عرق في جسدي ينبض بجنون وكأني أطلب ما قالته قبل لحظات، إعادة ذكر الحقيقة بكل قوتها ومرارتها وعذابها.. وكأنما استجابت لطلبي، قالت بشفقة بعد أن نقرت على طاولتها بظفرها الملون:
تماسكي أرجوك، فالموقف يتطلب منك الهدوء والسكينة.. المرض اللعين قد تمكن من صدرك كما أخبرتك ولابد من الاستئصال..
بكت أمي وصرخت اختي وبقيت واقفة أحدق فيمن حولي بذهول، وقد جاش في صدري احساس غريب لم أحسه من قبل وان الدنيا قد أظلمت فجأة وأقفرت من سكانها ولم يبقى سواي، وذلك المرض الخبيث.. لم أنم تلك الليلة ولا في الليالي التي تلتها تعلقت عيناي بسقف الحجرة أمامي وآلاف من الأسئلة تخترق رأسي بضجيج مؤلم.. لماذا وكيف ومتى.. وقد كنت حتى الأمس فقط في أتم صحة وعافية ولم يسبق أن شكوت من أي مرض.. وسعد.. حبيب الطفولة ورفيق العمر.. خطيبي الآني وزوجي المقبل كيف سيتقبل هذه الحقيقة وبأي صدر رحب سيواجهها؟ وقد كنت في نظره الوردة اليانعة المتدفقة حبا وحيوية وعطاءً.. كيف سيقبلني نصف امرأة بنصف صدر؟. وقلب مثقل بهموم المعاناة والمرض وشبح الموت يخيم على عش حبنا الذي لم يبدأ بعد.. رباه.. ماذا أفعل وكيف اصارحه بالحقيقة المفجعة التي ستقتله قبل ان يخترق نصلها المسموم صدري المريض.. أجهشت بالبكاء وقد أوصلتني أفكاري إلى طريق مسدود لا مهرب منه ولا تجاوز.. ومن بين دموعي لمحت أمي تربت على كتفي بحنان وهي تقول بصوت فضحته رناته الباكية:
ــ هل توصلت إلى قرار ياليلى.. هل توافقين على العملية الاستئصال؟.
اجبتها وعيناي مغرورقتان بالدموع:
ــ لا أدري.. أنا لم أتزوج بعد.. وسعد.. أنه..
واغتالت غصة ألم عميقة بقية كلماتي.. ضمتني أمي بحرارة وقالت:
المهم شفاؤك يا حبيبتي وانقاذ حياتك.. لا يهم استئصال يد أو ثدي أو ساق.. المهم الشفاء ومن يحبك سيقبلك كما أنت لا كما كنت..
أيدتها وفي قلبي خوف.. خوف عميق من أن يتخلى عنب سعد أو يتخاذل أو يتجاهل، فما بقي في نفسي ذرة هدوء تحتمل أي شيء من هذا..
وقررت في لحظة صفاء نادر.. أن أتخلى عن سعد.. أن استأصل حبي قبل أن استأصل جزءاً من جسدي.. أن أتركه قبل أن يتركني.. قبل أن أعاني مذلة السؤال وقسوة الهجران.. قبل أن أرى في عينيه الصدود والتجاهل أو النظرة أشفاق تحطم كبريائي وتعجل من نهايتي.. كفى يا قلبي.. كفى يا ضميري.. لن أنتظر منه كلمة قد تنسف حباً بنيت عليه عمري كله وأملي كله.. لن أعذبه بعذابي وأمتحن صبره بمرضي.. سأودعه بهدوء سيحزن قليلاً ويتألم كثيراً لأبكي أنا بصمت وعذاب.. وتمر الأيام وتندمل الجراح ويصادف حباً آخر وينساني وكأنني لم أكن.. ولن أنساه ما حييت..
كانت هذه خطتي.. رغم آلامي وعذابي بدأت في انتهاجها، حددت مع المستشفى موعداً لإجراء العملية وبدأت اتهرب من سعد.. أتهرب من لقائه ومن مكالماته.. وفي يوم استجمعت شجاعتي وقررت مواجهته.. حادثني عبر الهاتف.. قلت له بهدوء يغلف اضطراب نفسي وغليانها:
ــ سعد أرجوك.. انسحب من حياتي.. أنساني..
أحسست باضطراب أنفاسه وكأنه لا يصدق هذا الهراء تكلم اخيراً بصوت تمزقه اللوعة:
ــ ليلى ماذا حدث.. هل جننتِ؟.
أجبته بصوت حاولت جاهدة ألا يبدو فيه رنة بكاء:
ــ أنا في كامل عقلي يا سعد.. الحقيقة أنا لا أحبك ولم احبك يوما.. لقد كنت أتلاعب بعواطفك.. خنقتني العبرات.. صمت هو لكنه لم يستطع ان يتكتم شهقه ألم اخترقتني اختراقا لتفتت صدري المريض.. تمالك نفسه قبل أن يسأل:
ــ هل هناك آخر؟
أجبته:
نعم.. وأرجو ان تصادف إنسانة تفهمك وتحبك.. مثل الذي صادفته أنا..
وسالت دموعي على سماعة الهاتف، ولم أستطع التحدث أكثر من ذلك.. واحسست بدموعه تسيل على الطرف الآخر وأنا اسمع تنهداته الباكية.. قال اخيرا وهو يستجمع شتات نفسه:
ــ أنت حقيرة خائنة.. أنا اكرهك..
وأغلقت سماعة الهاتف لا بكي بجنون وأنا أمزق كل شيء بأظافري.. شعري وثيابي ودفاتري.. لم يبق شيء مهم بعد سعد.. لم يعد لأي شيء طعم بعد أن فقدت الحب والسعادة والأمان.. واستشعرت قسوة الموقف وفداحة التضحية عندها احسست فجأة بأن الحياة الكئيبة لا طعم لها ولا لون.. وان الأشياء من حولي ترتدي ثياب الحداد.. فلا أمل في حاضر ولا مستقبل.. المرض ينهش جسدي وحبي الوحيد تركته بارادتي ودون أية ضغوط..
وغابت شمس حياتي وأنا اتجرع العذاب اضعافا هال أمي ما تراه علي من وجوم وضعف شديدين، وسألتني بقلق:
ــ ما بك يا حبيبتي.. هل تفتقدين سعداً؟
وانهرت بين ذراعيها فاقدة الوعي ولم أفق إلا وأنا في المستشفى، وقد أجريت لي العملية الجراحية.. نظرت إلى ثوب المستشفى الأبيض وهو ينكمش حول الصدر ويبدو فارغا مخيفا كالقبر.. رفعت عيني الى الطبيبة بتساؤل مر.. قالت وابتسامة حزينة تبدو على محياها:
ــ حمدا لله على سلامتك.. لقد اضطررنا إلى استئصال الثدي الأخر أيضاً للحفاظ على حياتك.. ولن يعود إليك المرض الخبيث أبدا بإذن الله..
أجهشت بالبكاء على الغم مني ولم تفلح كلمات الطبيبة المواسية في ازاحة جبال الهموم التي تراكمت على رأسي.. حتى حنان أمي وحنوها علي لم يغيرا شيئاً من نظرتي القاتمة تجاه ذاتي.. قتاة تخطو خطواتها الواسعة نحو الشيخوخة بلا علامات تميز الأنثى عن الذكر، وبلا حتى بارقة من أمل.. و "سعد" الحب الضارب في أعماقي حد الوجع يختفي من حياتي بلا وداع وكلماته الأخيرة لا تزال ترن في أذني كمطرقة من حديد.. خرجت من المستشفى لا تقوقع حول ذاتي وكل شيء في حياتي يتداعى ويتحطم وينتهي للأبد حتى أشيائي الصغيرة وكحلي ومرآتي هجرتها وكأنها لم تكن..
وفي قمة يأسي وعذابي فوجئت به إلى جواري.. حبيبي الأبدي سعد.. ذهلت.. شملني اضطراب شديد من قمة رأسي حتى أخمص قدمي أعجزني حتى عن النطق.. حاولت الهرب وأنا أنظر الى صدري الخاوي بفزع.. جاءني صوته العذب مغلفاً باللهفة والحنان:
ــ ليلى أنا أحبك كما أنتِ.. أنت قاسية حين أبعدتني عنكِ بسبب المرض، ولكن ثقي ثقة أكيدة بأنه لن يفرقنا سوى الموت..
امتلأت عيناي بالدموع وأنا أشير إلى الواقع البشع المتمثل في صدري.. أبتسم برقة وهو يقول:
ــ سنجري عملية تجميل تعيد كل شيء إلى وضعه الطبيعي.. ستكونين زوجتي وأم أولادي ياليلى.
ــ تسللت كلماته الرقيقة إلى قلبي محملة بالأمل الطاغي.. ابتسمت رغم دموعي وأنا أقول بصراحة جارية:
ــ ومن أين يشرب أولادنا الحليب؟
لن نعدم بقرة ترضعهم..



aerf666.jpg
 

ألماس

عضو متميز
2 أكتوبر 2002
3,980
2
0
www.albrhan.com
جزاك الله خير
و حفظت الموضوع على جهازي

و السلام

أخوك ألماس
 

ياسمينه

عضو متميز
6 فبراير 2003
1,058
0
0
ياالله..فعلا قصه ..رائعه ...ومؤثره..
وفقت في إختيار الموضوع ياغفراااان
انا سمعت عن الكاتبه../قماشه العليان..
لكن ..ماتوقعتها ابد ا كذا..
رجاء..ياغفراااان..
كل يوم نزلي قصه من هالقصص اللي تجسد ..الواقع المر الي يشعر فيه بعض الناس والالم اللي يعانونه...ولكي نعرف قد ايش العافيه زينه
.....................................................
اللهم إشفي مرضا المسلمين ..ولاتحرمنا ياربي من نعمه العافيه
آآآآآآآآآآآآآآآمين
 

المحامي

عضو متميز
1 أبريل 2003
402
0
0
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،،،،،،،،،
منذ خمسة أيام وأنا أقوم ولأول مرة بكتابة قصة قصيرة ------------- قصيرة-----------
هي قصيرة بس طال الموضوع .
وتشعبت علي الشخصيات ثلاث مرات .
وجمعتها ولله الحمد .
والقصة تحكي عن شخص كان ذو سلطة وأصيب بمرض عضال وكيف نظرت الناس له قبل وبعد.
المهم
بعد أن قرأت القصة أحبطت معنوياتي تماماً :cry:
القصة الواردة أكثر من رائعة
شكراً لغفران على الأختيار
وعلى أنك فكرة فينا وأشركتنا معك في هذه الدرة.
وفي إنتظار القادم .
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0
أخي الماس

أختي ياسمينه

أخي المحامي

شكراً لمروركم وكتابت أرائكم في الموضوع قررت أن أكتب لكم القصص كل يوم أويومين نظرا
لطلب الأخت ياسمينة.

وأتمنى ياأخي المحامي أن تكون معنوياتك قوية وان لا تحبط أتمنى أنزال قصتك لكي نقرأها فلكل بحاجة الى القصص التي تمثل الواقع الذي نعيشه هذه الأيام لكي يراه الناس ويعرفون حقيقة الواقع.

وشكراً
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0
*********************** سأبكي غداً *************************

في ليلة زفافي على أبنة عمي تراءت لي فكرة.. فكرة غريبة نسجت خيوطها حولي.. فلم أستطع منها فكاكا.. فكرة تمكنت مني لدرجة السيطرة، فلم أتوانى عن تنفيذها، وبكل سهولة..
كانت الفكرة تلح علي إلحاحا غريبا.. بأن أهرب.. نعم.. أهرب الى أي مكان أو زمان لا توجد هي فيه..
لن أمضي في الخطأ أكثر من ذلك، لن أمضي في هذا الزواج، ولو كان الثمن هو الفضيحة، لن أظلمها معي، وهي الكائن الرقيق الحساس الذي لا يعرف الحزن أبدا.. تصورتها بخيالي.. (( أبتسام)) أبنة عمي بوجهها الناعم المستدير، وملامحها الرقيقة الشفافة التي تعكس كل ما يدور داخل نفسها الطاهرة، أنها ملاك في صورة إنسان، ملاك جميل يمشي على الأرض..
من العبث أن أتصورها زوجتي في يوم ما.. أو حتى أفكر مجرد تفكير في أن يجمعنا مكان ما.. لأنها لا تستحقني.. هذه هي الحقيقة.. الحقيقة البشعة التي حاولت مرارا اخفاءها عما حولي من الناس.. أنهم لا يعرفون شيئا.. كلهم.. حتى ابتسام، لا يرون مني ألا الشاب الوسيم المثقف الحاصل على أكبر شهادة من أمريكا.. وعدا ذلك فهم لا يدركون أي شيء.
ابتسام.. تطاردني صورتها للمرة الثانية.. بل في كل لحظة، أنها حبي الحقيقي..أول حب تفتح عليه قلبي.. وآخر حب.. منذ طفولتنا كنا معاً.. تعودت أن أراها أمامي في كل لحظة.. كنا نسكن بيتاً واحدا.. وافترقنا في سن المراهقة، لكن حبي لم تخمد ناره، بل أزداد أوراه في البعد، تعلق قلبي بها.. حتى لم أستطع الكتمان، فحادثتها عبر الهاتف في أستحياء.. ولكن خوفي ذاب مع أول كلمة منها.. وعرفت أنها تبادلني حبا بحب، فنشأ حبنا قويا قاهرا.. حتى تخطيت الثانوية العامة بنجاح باهر.. فقرر الأهل بالأجماع أن أكمل دراستي الجامعية في أمريكا.. فهي المكان اللائق لنابغ مثلي.
بكت ابتسام حينما علمت الخبر.. قالت لي ودموعها تنسكب على خديها بحرارة:
ــ أخاف أن تطيب لك الإقامة هناك فلا تعود
بحماس أجبتها:
ــ صدقيني سأعود.. سأعود حتما..
وكأن حماستي قد سرت إليها.. فهتفت بقوة:
ــ ربما يتقدم لخطبتي أحد أثناء دراستك..
لم أدعها تكمل.. قاطعتها قائلا:
ــ سأضمن زواجنا قبل أن أذهب..
وفعلا تقدمت لخطبة ابتسام من عمي
رحب الجميع، وعلى رأسهم أبي، على أن يكون الزواج بعد عودتي من أمريكا.. رجوت والدي أن أتزوجها ثم نسافر معا.. ولكنه رفض بإصرار بحجة أننا مازلنا صغارا..
وسافرت في بحر من الدموع.. وما إن لسعتني نار الغربة، حتى تقوقعت على نفسي وأنا أجتر ذكراها..
ولكن الأيام أزالت الوحشة من نفسي.. فانخرطت في شلة من الأصدقاء، وما لبثت أن تعرفت الى " جين" فتاة أمريكية، تدرس معي في الجامعة.. أرتبطت معها بعلاقة حب كما يفعل الكثير من أصدقائي.. وبالتالي قلت خطاباتي لابتسام " خطيبتي" وتباعدت وفقدت الكثير من وهجها وحرارتها ومصداقيتها..
كلا.. كنت حتى هذه اللحظة لم أنس ابتسام.. ولم أتوقف عن حبها.. ولكن وجود "جين" في حياتي كان كحبة المخدر التي أعمتني عن كل ما عداها حتى عن نفسي..
ووجدت نفسي بعد عامين فقط من حضوري من أمريكا متزوجاً من "جين" نعم.. تزوجتها على سنة الله ورسوله.. ولم أخبر أحداً بذالك.. تكتمت الخبر حتى عن أصدقائي في أمريكا..
وعشت معها لا يؤرق سعادتها غير إلحاحها على إنجاب طفل مني.. تجاهلتها حتى غدا هذا الموضوع هو القاسم المشترك لجميع أحاديثنا معا.. أو ربما يكاد يكون الموضوع الوحيد الذي نتحدث فيه على الدوام..
وفاجأتني ذات يوم بأنها قد عرضت نفسها على طبيب.. ثم أوحت لي بلباقة بأنه قد حان دوري لأذهب الى طبيب للفحص..
وجدت نفسي في موقف صعب، فقد وضعت رجولتي في امتحان خطير، تأباه كرامتي كشرقي أولا وأخيرا..
وما أجريت الفحوصات الاعتيادية حتى كانت المفاجأة..
أنا عقيم ومن الاستحالة أن أنجب..
سألت الطبيب وكل جزء مني يتداعى بصمت:
ــ أليس هناك من أمل.. بصيص ضوء.. ولو كان بعيدا؟.
هز الطبيب رأسه بقوة أطاحت بما تبقى من حبي للحياة وأملي بها..
طلقت "جين" بارادتي رافضاً كل توسلاتها للبقاء معي.. قلت لها بهدوء وداخلي يغلي كالبركان:
أنت أردت طفلا وأنا لا استطيع أن أحقق لك ذلك.. أملي أن تجدي من يستحقك في المستقبل.
انسحبت من حياتها بصمت كما دخلت بصمت.. ورغم كل شيء.. وكل السنوات الست التي انفقتها في الغربة وحصولي على الشهادة الكبرى’ عدت إلى الوطن مثقلا بالحزن والهموم..
رغم مظاهر الفرحة والاحتفاء بعودتي، وتفجر حبي لابتسام حينما رأيتها وقد غدت كالوردة اليانعة جمالا وتفتحا وحيوية.. بيد أني أدرك في أعماقي أنني لا استحقها، هي ترغب فيهن يسعدها ويملأ عليها البيت بالبنين والبنات، لن أشقيها معي باللهاث وراء حلم مستحيل، لن أعذبها بحرمانها من طفل يملأ عليها حياتها وتحقق به كينونتها، لن أظلمها أكثر مما ظلمتها، ولكنني كنت أجبن من أصارحها بالحقيقة.. أجبن من أن أواجه مجتمعي بهذا القدر المكتوب.. وأجبن من أن أتقبله..
ووجدت نفسي انقاذ لأبي بلا رأي ولا تفكير وأسير في إجراءات زوجي من ابتسام، وكأنني لم أفق بعد من ألم الصدمة..
ومضى كل شيء بسرعة.. حتى ليلة زواجي.. في تلك الليلة المميزة.. وكل الأشياء ترتدي ثياب الفرح والدنيا ترتدي ثوباً من الأضواء والمسرات..
تملكتني فكرة الهرب.. بعيدا لأي مكان وزمان.. فلن تسامحني ابتسام حينما أتزوجها زورا وخداعا، ولن أرضى على نفسي وكرامتي أن أصارحها بأنني عقيم..
ففي مجتمع كمجتمعي لا مكان فيه لمن حرم من إنجاب الأطفال.. فالكل يتحدث والكل له حق في حياتك وبالطريقة التي يرغبها.. لأبتعد وصورتي المرموقة ماثلة في أعماقها لا تهتز.. ولأكون رمزا لحب لم ينته.. ولن ينتهي..
كتبت لها ورقة بيضاء تحمل الكلمات التالية:
(" الوداع يا أجمل وأحب مخلوق عرفته في حياتي.. لن نكون لبعضنا.. هذا قدرنا.. وسامحيني يا حبي الوحيد).. وهربت.. عدت لأمريكا.. عدت ل"جين" مرة اخرى..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

&&&&&&&&&&&&& جمال لا يراه الناس &&&&&&&&&&&&&&


كنت أدرك تماما بأنني غير جميلة وان الله جلت قدرته لحكمة إلهية أجلها لم يهبني ولو مسحة من جمال، ولا حتى ذرة جاذبية بها قبحي وتنافر ملامحي..
كنت اعلم هذا منذ الطفولة.. من تهامس خالاتي وهن ينظرون لي بحسرة.. من نظرات أبي المشفقة.. من دموع أمي الكثيرة وهي تدعو لي بالستر والزواج دون بقية اخواتي.. وحينما كبرت قليلاً تعالت الهمسات إلى أصوات حادة تمزق أذني وتخترق قلبي بنصلها السام.. كانت الكلمات أكبر من ان تتحملها طفولتي الغضة وأقل من قدرتي على الاستيعاب.. كنت اسمع كلمات متناثرة عن ضخامة أنفي وضيق عيني.. الكثير يمزجون كلماتهم بضحكات عند الحديث عن شعري الاكرت وتشبيهه بشجرة ضخمة من أشجار الجميز.. كنت اضحك وما لبثت ضحكاتي ان تحولت إلى دموع.. دموع حزينة تحفر اخاديد من الاحزان على وجهي الدميم خصوصاً وأنا ألمح جمال اخوتي أمامي وازدياد جاذبيتهن وملاحتهن..
كنت مثار التعليقات والضحكات أينما كنت.. حتى كرهت الزيارات والحفلات والاعراس وحاولت مقاطعة الناس مقاطعة تامة أو على الاقل الظهور على الناس دون وجود اخوتي والمقارنة الصارخة التي ستحكيها أعينهم قبل ألسنتهم.. وكانت دراستي في الجامعة هي ملاذي الوحيد من غدر كل البشر.. فيها كنت اشعر بأنني طبيعية كأي فتاة أخرى في الوجود.. كنت اشعر بأن دمامتي ليست منفردة وان وجهي ليس بشعاً لأبعد الحدود وأن أنفي يعود لحجمه الطبيعي وعيني تتسعان..
ثقتي بنفسي تعود بشكل كاسح في الجامعة.. وبعيدا عن جو أسرتي وجمال أخوتي الآسر..
هناك ابتعد عن نظرات أبي الكسيرة وعيني أمي اللتين توحيان لي بفيض من الاحزان.. وبلغت مأساتي قمتها حينما علمت بخطبة اختي التي تصغرني بعامين.. وبمحض المصادفة سمعت حواراً بين أمي وأبي..
كانت أمي تبكي وهي تقول:
ــ ان مستقبلها سيتحطم حينما تتزوج شقيقتها الصغرى قبلها.. سيعلم الخطاب بأنها دميمة وينصرفون عنها..
وسمعت أبي يرد عليها بهدوء:
ــ ليس مهما ان تتزوج شريفة.. ان مستقبلها العلمي أهم من كل شيء.. ستصبح دكتورة عظيمة..
في تلك الليلة انهار كل شيء.. آمالي وطموحاتي ومستقبلي..
وماذا يهمني كأي انثى في هذه الدنيا الواسعة..؟
ان كينونتي تتحقق في بيت صغير انا ملكته المتوجة.. وزوج حنون واطفال يملؤون علي حياتي، ان حبي للحياة استمده من انوثتي.. من تعطشي للحياة كأية فتاة ترنو إلى الاستقرار وتحن للعيش السعيد.. وقتها فهمت كل شيء.. فهمت حرص أبي على دراستي دون بقية اخوتي ورعايته التامة لي في كل شأن من شئوني.. وحتى اختياره الدقيق لتخصصي في الجامعة.. انه يحاول ان يبني مستقبلي بعيدا عن احلام وطموحات الانثى.. انه يشق لي طريقاً في الحياة بعد ان فهم بقلب الأب انه لا طريق لي غير طريق العلم ولا مستقبل لي غيره وبكيت بحرارة.. هطلت دموعي الحارة لتغسلني من الداخل وتطهر قلبي من أية آثار لحقد أو ضغينة على أحد، وحتى الغيرة التي احسستها تجاه شقيقتي تلاشت في ثوان، فلا ذنب لأحد في دمامتي حتى ولا والدي الذي ورثت أغلب ملامحه..
وفي زواج شقيقتي رسمت ابتسامة فرح على شفتي ومضيت غير عابئة بهمسات الآخرين وابتساماتهم الملتوية..
تمالكت نفسي وسيطرت على مشاعري وتجاهلت عيني أمي المليئتين بالدموع وهي ترمقني بحسرة.. وطردت من اعماقي المقارنة الخاسرة التي يجريها الناس بسرعة بيني وبين شقيقاتي.. وحاولت أن ابدو أكثر مرحا وأشد الموجودات تفاؤلا..
لكنني ورغم كل شيء بكيت في النهاية .. أبت دموعي في تلك الليلة إلا
أن تبلل وسادتي حتى الغرق .. كنت أبكي وحدتي وعذابي ونظرات الناس التي لاترحم..
فوجئت بيد حانية تربت على كتفيي وصدر أكثر حنانا يشدني إليه.. قالت لي أمي من بين دموعها الغزيرة:
ــ ستمر الأيام وستجدين من يحبك ويتزوجك.. صدقيني يا شريفة يا أبنتي.. ان فارس أحلامك في الطريق إليك..
امتزجت دموعنا بين يأس ورجاء.. لم أستطع أن أنطق وقتها.. اكتفيت بشلال الحنان الذي غمرني وانساني مرارة الشكوى وذل الانتظار..
في السنة النهائية من دراستي الجامعية.. وفي اختبار احدى المواد النظرية، أثارني احد الأسئلة وهو يتعلق بالمقارنة بين جمال المادي المحسوس وانطلاقة الروح نحو الجمال الداخلي الأبدي.. كانت اجابتي مذهلة حتى تعدت حدود قدرتي على التفكير..
وبعدها بأيام فوجئت بالاستاذ الدكتور الذي يقوم بتدريس المادة يستدعيني بعد انتهاء المحاضرة.. وقفت امامه بثقة اشرح له وجهة نظري فيما كتبت وتناسيت كل شيء عم ملامح وجهي وتنافره وبشاعته..
فوجئت به يرمقني باعجاب وفي عينيه لمعة غريبة لم أراها في نظرات أي إنسان نحوي.. أربكتني نظراته ومضيت ليلى افكر.. ترى.. هل..؟ مستحيل.. مستحيل ان يفكر كائن ما بفتاة شوهاء مثلي.. انه دكتور ورجل وسيم.. وعشرات من الفتيات يتمنونه.. فهل؟ واحاول اجهاض افكاري قبل ان تنمو في اتجاه منذر بالخطر قد يدمرني بعد ذلك..
ونسيت وتناسيت.. لكنه لم ينس.. فوجئت بذلك الدكتور يستدعيني مرة أخرى ويناقشني في كل كلمة دونتها في ورقة الاجابة وعيناه تزدادان بريقا ولمعانا..
سألني لماذا هذا الكم من التشاؤم وعدائية الجمال.. امتلأت عيناي بالدموع وانا اشير إلى وجهي الدميم.. لكنه هتف مبهزراً:
ــ انت جميلة..
صعقت.. وقفت وأنا اترنح.. شعرت بما يشبه الاغماءة وتيار كالكهرباء يسري في جسدي ويعذبني.. وتركته دون كلمه واحدة.. وكلمته تلك تدوي في أذني كموسيقى رائعة تشنف الآذان وتحيل حياتي بأسرها إلى حديقة غناء، تمرح بين جنباتها الطيور المغردة.. قبل ان افكر في كلماته فوجئت به خاطبا.. نعم فقد تقدم لأبي يطلبني للزواج.. بكت أمي فرحا وعلق أبي والسرور الطاغي يتألق في عينيه:
ــ لكنه يا ابنتي يكبرك كثيرا في السن.. ثم انه منفصل عن زوجته السابقة.. قاطعته أمي والدموع لا تزال تبلل أهدابها:
ــ الرجل لا يعيبه سوى جيبه.. وهو بحمد الله رجل مقتدر..
بيني وبين نفسي همست " يكفي انه يحبني لذاتي وليس لأي شيء آخر"
رفضت اقامة حفل زفاف واكتفيت باحتفال بسيط ضمنا انا وهو في بيت الزوجية.. سألته بصدق أكدته دموعي:
ــ هل تعتقد قعلا بأنني جميلة؟
اجابني وعيناه تتألقان بومضة اعجاب:
ــ انت أجمل فتاة وقت عليها عيناي.. انني أرى فيك مزايا قد لا يراها غيري ممن تجذبهم القشور.. انني أرى جمالك الداخلي.. انني احبك يا شريفة.. امتلأت عيناي بالدموع وأنا أحمد الله الذي لا يضيع أحدا..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

@@@@@@@@ إمرأة في سيارة أبي @@@@@@@@


قبل أسابيع فقط من زواجي حدث الانقلاب المريع في حياتي..
مات أبي.. مات في حادث سيارة..
وكان الحادث من الفظاعة بحيث لا ينسى أبدا ولا يغادر ذاكرة الناس إلا لماما..
انحرفت سيارته اليابانية الصغيرة عن الطريق ليتافادى الاصطدام بسيارة أخرى قادمة بسرعة من الاتجاه الآخر.. فارتطمت بعمود كهرباء مما شطرها إلى نصفين وحولها إلى كتلة هائلة من اللهب.. ومات أبي محترقا.. الأفظع انه لم يمكن وحده في السيارة.. كانت ترافقه امرأة.. امرأة غريبة وجدها رجال الشرطة ملقاة على الأرض تنزف دماً بغزارة.. ولم تمت تلك المرأة، ولكنها أصيبت بنزيف داخلي أدخلت على أثره حجرة العناية المركزة.
أخذ الحزن بعقولنا.. وشلتنا الصدمة المفاجئة.. تلتقى أعيننا بغير كلام وفي الدمع ألف سؤال وسؤال..
من تكون هذه المرأة؟ ولماذا ترافق أبي في سيارته..؟
هل هي..؟ ويعجزنا الألم عن التصور والايضاح..
تكون من تكون.. الأهم أن أبي مات.. أبي الإنسان الرقيق الحساس.. كمُ هائل من الحنان يحرك خطواته.. يغلف عينيه الوادعتين غشاء لامع من الدموع نادرا ما يغادرهما.
يحب الصغير والكبير ويحترم أمي احتراما عظيما، ويكن لها حبا ممتزجا بعطف.. لم أره يعنفها أو حتى يوجه لها ولو كلمة قاسية..
اتجهت إلى أمي يحركني احساس عنيف بالشفقة.. كانت جزعة ذاهلة.. حيرى لا تدري أتبكي على الحبيب الراحل أم تتساءل عن سبب وجود هذه المرأة الغريبة معه في السيارة..
لا تدري أتحزن أم تندهش.. تتسربل في الصمت أم تسأل وتتحرى.. تسكت أم تتكلم؟
تتنازعها انفعالات شتى وعذابات تمزقها بالحيرة والتشتت والضياع.. مزقت حاجز الصمت وواجهتها دون مواربة:
ــ أمي هل كنت يوما تشكين بأبي..؟ أعني هل كان يوما موضوع شكوتك بأنه على علاقة بامرأة أخرى؟.
بهتت.. اتسعت عيناها بدهشة مفاجئة وكأنها لم تتوقع مني أن أهتك أستار الماضي حتى ولو من أجل الذكرى الطيبة للأب الراحل.
تحدرت الدموع على وجنتيها وسالت بغزارة لتبلل رداءها الأسود.. خلتها تغرق بدموعها.. أعدت سؤالي وصوتي يتهدج:
ــ أمي.. أريد أن أعرف.. أريحيني بالله عليك..
علا صوت نشيجها الخافت في سكون الحجرة الشامل.. مضت دقائق قبل ان تستجمع شتات نفسها وترد بخشونة:
ــ لا أسمح لأحد بأن يتحدث عن والدك – رحمه الله – بأية كلمة سوء.. أفهمت يا دلال..؟
ولم أفهم.. ولم أعرف كيف تكون كرامة الزوجة التي تأبى الاعتراف بأخطاء زوجها ولو رحل..
ولم أكن الوحيدة التي سألت أمي هذا السؤال.. بل وجدت أعين الجميع تتساءل والسخرية تلون وجوه الحاقدين..
ومهما تجاهلت أمي الجميع فلم يكن بمقدورها أن تتجاهل رجال الشرطة وهم يوجهون لها السؤال نفسه.. حبست أنفاسي وأنا أسمع ردها:
ــ كلا.. لم يعرف في حياته غيري..
ــ كلا.. لم يكن يغادر البيت إلا لماما..
ــ كلا.. لم يكن من هواة السفر والرحلات..
ــ إنه كان مؤمنا ويصلي ويحب بيته وأولاده..
وتنهار أمي في نوبة بكاء هيستيرية.. وأبكي أنا خلف الجدران في صمت..
كانت الدنيا تعدني بمفاجأة أكبر وأقوى.. وكأن فقدان أب لا يكفي لتحطيمي.. فوجئت بصالح زوجي المقبل يحادثني.. ولم يكن قد حادثني منذ تعزيته لي بوفاة أبي..
قال باضطراب يفضحه ارتعاش صوته:
ــ دلال.. لقد انتشر الخبر بين الناس.. الجميع يتحدثون عن أبيك ويقو.....
قاطعته بحسم:
ــ صالح ماذا تريد أن تقول؟.
تلجلج في الكلام.. ابتلع ريقه بصعوبة وهو يقول:
ــ لا.. لاشيء.. فقط.. إن الفضيحة..
وأغلقت سماعة الهاتف في وجهه.. وانكفأت على الهاتف أبكي.. لقد فهمت.. فهمت كل شيء..
انه يتخلى عني.. يتخلى عني من أجل كلام الناس.. لم يقف إلى جانبي كأي صديق مخلص وزوج محب.. بل انهار كل شيء أمام أول اختيار.. سقطت الأقنعة وبدت الحقائق عارية وتمخض كل شيء عن لا شيء..
وقفت أحدق في المرآة بذهول وأنا لا أكاد أصدق..
صالح أول حب تفتح عليه قلبي.. هو الذي سعى إلي ووسط كل قريباته ليفوز بقلبي.. هو من رفضه أبي أول مرة لضعف شخصيته.. ووافق عليه في المرة الثانية عندما رأى دموعي..
هو الذي بكى تحت قدمي ليلة عقد القران غير مصدق بأنني أصبحت زوجته..
هو.. هو.. أكاد لا أصدق ما حدث..
ولكنني صدقت وتيقنت من كل شيء حينما رأيت ورقة الطلاق أمام عيني ونظرة الشماتة التي لمحتها في عيني أخته وهي تقول:
كل شيء قسمة ونصيب.. كلام الناس لا يرحم"..
امتلأ بيتنا بالأحزان وارتدت الأشياء ثوب الحداد.. وازدادت أمي حزنا واكتئابا وقد ساءها ما حدث لي..
وازدادت انعزالا وهروبا عن الناس.. واكتسى وجهها الناعم بصفرة مخيفة.. لمحتها تبكي مرارا وتحادث نفسها كثيرا وتلوم أناس لا أعرفهم.. حتى خشيت عليها أن تفقد عقلها..
اقتربت منها كثيراً وربطت المأساة بين روحينا بعد ان هجرنا الناس وتخلى عنا أعز الأحباب.. وكثيراً ما شوهدنا نبكي معاً..
ولكن الفجر لابد أن يعقب الليل والنور يكتسح الظلام..
لم تكشف تحريات الشرطة سر تلك المرأة التي كانت ترافق أبي يوم الحادث ولم يبدد نشر صورتها في صحف محلية غموض الحادث الغريب..
لكن إفاقتها من الغيبوبة التي قضتها شهرا في العناية المركزة كان الأمل الذي بعث الآمال في النفوس وان كانت آمالا خائفة تخشى ما لا تود سماعه..
وكانت المفاجأة التي فجرت الدموع من العيون وفتحت الجراح التي اقفلت على صديد..
كانت المرأة هي الخادمة المغربية التي أعدها أبي مفاجأة لأمي.. وقد حضرت في اليوم نفسه الذي حدث فيه الاصطدام البشع.. وقد أرادها أبي مفاجأة لأمي، فكم اشتكت أمي مرارا بأن خادمة واحدة لا تفي بمتطلبات البيت والأطفال..
فمضى أبي في إجراءات الاستقدام بهدوء وسرية لتكون احدى مفاجآته المفرحة التي غالبا ما أدخلت السرور إلى نفوسنا..
لكنها في تلك اللحظة تحولت لمفاجأة حزينة..
استدرت الدمع من المآقي ودفنت ينابيع الاحزان.. فبكينا على أبي الراحل كما لم نبك من قبل.. ولأول مرة منذ الحادث أرى أمي تبكي ودموعها صدق الاحساس وراحة المعرفة وحزن الحبيب.. لم تكن حيرى ولم تكن قلقة وشاركتنا خادمتنا الجديدة البكاء وهي تخبرنا انها لم تر رجلا أنبل منه، فقد كان يقود السيارة مسرعاً ليرى وقع المفاجأة علينا كما قال لها.
وبعد أيام قليلة فوجئت بصالح زوجي السابق يطلبني على الهاتف.. استمعت إليه بهدوء وبعد أن قال ما عنده وأنه ينوي اعادتي إلى عصمته..
رددت عليه بالهدوء نفسه:
ــ آسفة يا صالح.. أنت إنسان ضعيف لا يستطيع حمايتي إبان الأزمات ولا يستطيع حتى أن يحمي نفسه..
أنا احتاج الرجل القوي.. الرجل الناضج.. صاحب الكلمة الواحدة التي لا تتغير.. وهو لست أنت بكل تأكيد..
وابتسمت بكبرياء وأنا ألقى بسماعة الهاتف..

 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

((((((((((((((((((((((((.. وأضاعني أخي ))))))))))))))))))))))))


في السابعة عشرة من عمري كنت.. حينما تصدع العالم من حولي.. انهارت الجدران التي تحوطني وتمزقت الأقنعة عن وجوه من حولي لتبرز لي الأنياب والمخالب.. والأرض الخربة المتهاوية والاشجار العارية والأيدي الخاوية والأنفس الممتلئة بالصديد..
في بداية تفتحي للحياة كنت، اخطو خطواتي الأولى وفي عالم الأنوثة الصاخب بالجاذبية والغموض كما يتراءى لي..
بيد أن سرمدية الواقع اغتالت الحقيقة الجاثمة أمام عيني كواقع مرعب.. ماتت أمي.. نعم ماتت من تمثل لي نبع الحنان وروضة الجنان وشاطىء الأمان..
انتزعها مني القدر في يوم ممطر كئيب.. في ذلك اليوم البعيد كنت أقف في ردهة المستشفى تتقاذفني أمواج الأمل والألم، تحلق بي الأحلام وتصفعني الأوهام.. فالعملية ليست سهلة.. انسداد في أحد شرايين القلب، وأمي بقلبها الضعيف لن تتحمل العملية.. هكذا أوحى لي حدسي.. لترد علية عاطفتي اللطمة بأن أمي كانت ولا تزال تتحمل كل شيء ولن يضرها أية عملية تجرى في جسدها..
لاح لي وجهها المنهمك قبل العملية بلحظات.. أمسكت بيدي في قوة عجيبة.. امتلأت عيناي بالدموع.. ابتسمت بوداعة وهي تهمس:
ــ لم اعهدك هكذا يا نجلاء.. أنت قوية وستبقين قوية دائماً سواء بوجودي أو بعدمه.. هطلت دموعي بغزارة وأنا اهتف:
لا يا أمي.. لن افقدك.. ستخرجين سالمة بإذن الله وسنعيش بسعادة كما كنا دائماً.. سرت البرودة من جسدها إلى جسدي عبر أناملها النحيلة المعروقة.. تنهدت وهي تقول:
ــ الأمل بالله كبير.. ولكن لا تبكي يا نجلاء يا حبيبتي.. عديني ألا تبكي.. لا أحب أن أرى دموعك.. أريد ابتسامتك كأخر شيء تقع عليه عيناي قبل الدخول إلى حجرة العمليات.. هيا ابتسمي يا حبيبتي.. اغتصبت ابتسامة شقت طريقها وسط الدموع.. ألفيت نفسي لا أزال ابتسم رغم مرور وقت طويل على دخول أمي حجرة العمليات..
عادت الشكوك تتناهبني حينما قال لي أخي الاكبر:
ــ نجلاء.. ألن تجلسي؟
أشحت ببصري عنه غير قادرة حتى على ترف الرد على سؤالة..
أقبل الطبيب متثاقلاً.. نبض قلبي بسرعة جنونية.. قال بصوت معدني بارد وعيناه الزائغتان تنتقلان بيننا:
ــ البقية في حياتكم.. الوالدة في رحاب الله!!
لم يستجب قلبها الضعيف للتنبيه المتواصل..و..و.. ولم أع وجودي. صحوت على واقع بشع منفر يخلو من وجه أمي الحبيب.. ولم أصدق انها غادرتنا إلى غير رجعة.. حتى عندما أعاد المستشفى حاجياتها البسيطة.. عباءة سوداء، سوارين ذهبيين وخاتما ذا فص أزرق أهدينه لها عندما استلمت أولى مكافآتي من الجامعة.. وحذاء اسود بسيطاً كانت قد استعارته مني.. لا.. لا اصدق.. ولن اصدق.. تحجرت عيناي بغير دموع.. وانساب نزيف الداخل بلا حساب.. رفضت الاكل والشرب والنوم.. بغيت كتمثال بارد في حجرة أمي العتيقة احتضن كل شيء بعيني يغمرني شعور جارف بأنني لن أراها مرة أخرى.
وحدث ما كنت أخشاه، انتزعني أخي من بين اشيائي المحببة ووضعني في حجرة بمنزله بعد أن دفن ذكرياتي وأمي بإعلان بيع منزلنا..
لم يكن لي حق الاعتراض بعد أن تعرضت على يد زوجته إلى شتى أصناف الاهانة والاذلال.. وبعد أيام – لا أدري كم عددها – أقتحم أخي حجرتي كعاصفة هوجاء.. قالها بلا مقدمات:
ــ ستتزوجين الأسبوع القادم..
بقلة حيلة تساءلت:
ــ والجامعة!؟.
اجاب بخشونة تعمدها:
ــ ليست ضرورية.. الزواج أهم..
ولم أسأل من هو.. وماذا يعمل.. ولا كيف تبدو هيئته.. استسلمت تماماً لأخي وجبروته وطغيانه.. ليس خوفا منه بل طمعا في الهروب، الهروب من قبضته إلى أي مكان، وأي أرض، وتحت أي سماء..
ولم يكن زوجي المقبل بأفضل من أخي.. فقد عاملني منذ البداية على انني سلعة.. سلعة اشتراها ليكمل بها ديكور منزله تماما كقطعة سجاد أو آنية فخارية أو لوحة تاريخية..
حاولت التقرب منه بشتى الطرق، ولكنه كان في واد وأنا في واد آخر.. حاولت اجتياز المسافات التي وضعها باختياره، ولكن محاولاتي كلها ذهبت ادراج الرياح..
واكتشفت متأخرة اسباب صدوده عني.. عرفت سبب تجافيه لي وكأنني لم أكن..
هناك حب قديم في حياته.. احب ابنة عمه بعمق، ولكنها رفضته وتزوجت بآخر.. وبقى يحبها ويلعق جراحه باستمرار.. ولم أواجهه بما عرفت، واكتفيت بمراقبته في صمت وكأنني اراقب شخصا مريضا..
لم يفرح حينما علم بأمر حملي ولم يساوره ادنى شعور بأية سعادة..
فقط قال لي بفتور:
ــ أتمنى ان يكون القادم ولدا يحمل اسمي..
نكست رأسي بيأس وأنا امضغ تعبي وقلقي واحباطي.. حتى أذن الله لي بالولادة،فأجبت طفلة جميلة، ما أن علم بأمر ولادتها حتى قاطعني ولم يزرني بالمستشفى ولا حتى تلقيت منه مكالمة هاتفية..
شقيقي الاكبر كان أشد منه ظلما وجورا، فقد رفضت زوجته رعايتي بعد الولادة.. فأخرجني من المستشفى إلى بيت زوجي الذي لا يريد أن يراني.. فأي اهانة واذلال أكثر من هذا؟..
انزويت في ركن من اركان بيتي أنا وابنتي ابتلع دموعي في صمت تتراءى لي صورة والدتي بحنانها وحبها ورقتها
لماذا ترحل وأنا في قمة احتياجي لها؟.. وتضيع تساؤلاتي وتلاشت دهشتي لتلوح لي تياشير الحقيقة الؤلمة.. فزوجي لم يحبني منذ البداية وانما تزوجني لمجرد انه يريد ان يتزوج.
وهكذا عدت لبيت أخي مطلقة، ولم تمض سنة على زواجي.. وبين ذراعي طفلة لا ذنب لها في شيء على الاطلاق.. لم يشعر أخي بأي تأنيب ضمير وهو يرى دموعي تنساب على خدي بحرارة.. اكتفى بنظرة زاجرة وزوجته تقول بشماتة:
ــ انها لا تصلح ولن تصلح لأن تكون زوجه ناجحة.. لقد افسدتها أمك بتدليلها.. ولا أجرؤ على النطق حتى وهي تأتي بسيرة أمي – رحمها الله – دون لفظ رحمة.. ابتلع غيظي واصمت..
ولم يطل انتظاري كثيرا.. فقد جاءني أخي والتردد يسبق خطواته.. نبض قلبي بجنون.. وقد استشعرت مقدما الخطر الآتي:
قال لي بحسم
ــ ستتزوجين بعد شهر من رجل ناضج بقدرك حق قدرك..
همست وكياني كله يرتجف:
ــ وابنتي؟
وضاعت صرخاتي وسط اصرار أخي وزوجته على تحطيمي..
ألقى أخي بكل أسلحته أمام رنين النقود والثروة المرتقبة من الرجل العجوز الذي سيبيعني له.. رجوته أن يبقي معي ابنتي خاصة أن والدها رفض الصرف عليها.. تردد.. هددته بأنني لن أتزوج إلا ومعي ابنتس..
وانا الآن زوجه لرجل تخطى الكهولة بسنوات في بيت مترامي الأطراف، بارد كالصقيع الذي يسكنني.. لا حب.. ولا مودة ولا رحمة تربطني بزوجي.. كل الذي بيننا هي ابنتي.. فهو لسوء حظه وحسن حظي عاش طوال عمره يعاني من العقم، فكانت ابنتي وكأنها هدية من السماء بالنسبة له..
وانا اعيش وأرى.. وأنام.. وأخي؟؟
سامح الله أخي...
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

#################الموت الجديد ####################


جفاف في حلقي.. صعوبة قي الابتلاع.. وسعال شديد لدرجة أنني أشعر بقلبي يكاد يخرج من فمي، وأتقيأه كما تقيأت سابقا كل أنواع المهانة والاذلال.
دكتورة هل....؟ تقاطعني وهي تتهيأ لكتابة الوصفة.. لا شيء ذا بال.. التهاب بسيط في الحنجرة.. قرص كل ثماني ساعات ومحلول للغرغرة و.. وتاهت نظراتي عن المكان وأحسست بما يشبه الغيبوبة وأنا أتأمل داخلي بصمت.. ترى أليس لهذا العذاب نهاية؟ ألن يقف عن التدفق هذا السيل الجارف من الهوان والانكسار؟ أطفالي فقدتهم الواحد تلو الأخر، أحمل في بطني تسعة أشهر أطعمه من ذاتي، ترعاه خطواتي الواهنة، أترقبه يوما بعد يوم، ساعة بساعة، صور الأطفال في الصحف والمجلات تغذي خيالي عن طفلي القادم، ملامحه، ابتسامة، لكن كل شيء يذهب ادراح الرياح ولا اقبض سوى السراب.. فبعد أيام من ولادتي.. سبعة أيام على وجه الدقو والمولود في كامل الصحة والحيوية يبكي فجأة.. ثم يرتفع صوت بكائه.. ويزداد.. ويزداد.. ويتعاظم حتى يطغى على أي صوت عداه، أفشل وزوجي في تهدئته.. دقائق.. ساعات.. ثم يذوي ويفقد الوعي ويموت.. نعم هكذا فجأة.. هذا هو السيناريو المحكم التدبير الذي رافقني على مدى أربع ولادات متتالية.. سوى تغير طفيف في آخر ولادة.. إذ ما أن بدأ المولود صراخه على ذلك النحو المخيف وقلبي تعلو دقاته ولساني يكرر آيات قرآنية معينة حتى خرج زوجي عن صمته وصرخ بقوة.. بقوة شديدة لأسمعه.. أنت طالق.. وخرج وتركني مع أربعة جدران صامته تسخر مني.. ومولود يموت أمام عيني بلا سبب.. ملابس الطفل تملأ الادراج، واثمن انواع الالعاب وقناني الحليب، لكن لم؟ هل اعطي العذر لزوجي.. فرغم كل ما بذلناه من طواف على المستشفيات والنحاليل والفحوصات والأدوية لم نصل إلى نتيجة بل ذات النهاية الموجعة بكل تفاصيلها المؤلمة الحزينة.. هل أراد أن يهرب من هذه المأساة، أم أراد الاختباء عن أعين الناس وألسنتهم وفضولهم الذي لا ينتهي، أم انصاع اخيرا لآراء أمه وأخواته اللائي لم يتورعن عن اتهامي بأنني المتسببة بكل ذلك؟
السعال يعاودني بقوة.. أضع المنديل على فمي وأنفي لافاجأ ببقع من الدم الأحمر القاني تلونه.. تلمحه الطبيبة ثم تسحبه مني بحذر لتحولني إلى قسم الأشعة.. لم أجزع أو اقلق وأنا أرى الأمور تتعاظم من حولي.. الطبيبة وهي تهرول الى رئيس القسم، ثم اجتماع للأطباء وإعادة الفحص مرة أخرى.. مع انهيار سيل من الأسئلة على رأسي.. سبحان الله.. لم يعد أي شيء يثير خوفي أو يهز سكينتي واطمئناني.. فماذا سيحدث لي أكثر مما حدث.. ماذا سيرعبني أكثر مما أرعبني صراخ اطفالي في نفس اليوم والساعة وهم يموتون بلا سبب وبلا خيار.. ماذا سيرعبني أكثر من تخلي زوجي عني ونبذه لكل اللحظات السعيدة من أجل أمر لا ذنب لي فيه.. لقد تساوت الأمور في نظري وغدا كل لا يساوي شيئاً.. حتى زواج زوجي بأخرى وحملها منه لم يشعراني بأكثر من وخزة ألم في قلبي ثم تلاشى كل شيء..
بعد مقدمة عن الإيمان بالله والصبر على الشدائد وانتظار الفرج همس لي كبير الاطباء بحقيقة مرضي الخبيث في الرئة وأنني أنجو غالبا.
لم أحزن.. ولم أبك.. فقط تنهدت بقوة وأنا اوكل لله أمري.. بعدها بأيام فقط وقد استعادت الحياة دورتها معي اخبروني بانجاب زوجي لطفل ذكر فرح به فرحة عظيمة ثم دعتني شقيقات زوجي لحضور " اسبوع " الطفل الجديد لاغاظتني وقهري.. رغم ألمي ومرضي وعذابي لاحت أمام عيني تفاصيل حياتي السابقة مع زوجي.. انه لم يغضبني يوما ولم يقهرني وحاول جهده اسعادي.. لكن ما حدث كان فوق طاقة أي إنسان على الاحتمال.
حملت هديتي وذهبت.. نظرات الجميع توحي بالشفقة المرة والشماتة المبطنة بأسى.. ابتلعت احزاني داخلي وأنا أرى المولود.. لحظات ثم بكى الصغير.. علا صوته أكثر.. نبضات قلبي تتسارع بجنون.. صور من الماضي الغريب تختلط بالمرئيات أمامي.. صرخ أكثر وأكثر.. فشل الجميع في تهدئته.. ألم شديد في صدري والمأساة تتجسم في ناظري مخيفة بشعة قاسية.. غادرت المكان ولأول مرة منذ سنوات خلت.. بكيت بمرارة.
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

&&&&&&&&&&&&& جسد بلا أنوثة &&&&&&&&&&&&&

في السنوات الأولى المبكرة.. عرفت حقيقتي.. عرفتها من دموع أمي الدائمة.. ومن حنان أبي الزائد لي دون بقية إخوتي.. عرفتها من مرآتي.. من منظري الهزيل وشفتي الزرقاوين وعيني الذابلتين.. عرفتها من كلمات الأطباء المواسية ومن نظرات الأقارب المشفقة.. كانت التعليمات من حولي واضحة.. جادة.. صريحة.. لا تلعبي مع الأطفال.. لا تضحكي كثيراً ولا تحزني كثيراً.. لا تنفعلي ابدا..
لم اكن بحاجة لأن يصارحني أحد بأنني مريضة.. وبأقسى مرض تواجهه طفلة تخطو خطواتها الأولى على سلم الحياة.. إنه مرض القلب.. الذي امتص طفولتي وشبابي وحياتي.. لا أتحرك إلا بحساب.. ولا آكل إلا بموعد.. ولا أنام إلا بدواء..
كان كل شيء في حياتي ضبابيا على نحو لم استطع له تفسيرا.. حتى أقفلت لنفسي على أعتاب الأنوثة.. رغم الالحاح الصارخ في أعماقي، فلم أكن أرى أثرا له على جسدي.. لا لمعان في العيون.. ولا صدر ناهد.. ولا استدارة في الجسد.. ولا دماء تسري في الوجنتين كشقيقتي أمل التي تصغرني بعام واحد فقط.. أعيد النظرة في المرآة.. فيصدمني وجهي الأصفر بعينيه الجاحظتين.. وجسد ضامر وهزيل، لا يصلح حتى كهيكل في التجارب الطبية.. ورغم هذا أحببت.. نعم أنا الفتاة المريضة الهزيلة الشاحبة أحب..
كان ابن عمي فيصل هو أول حب يتفتح له قلبي وعقلي وكل جوارحي.. كان حبي له قويا آسر ومحطما.. كنت أراه وهو يتردد على أخي يوميا.. وأراه وهو يحادثني طالباً اخي.. وأراه حين أغمض عيني لأنام..
كنت أعرف أن حبي له مستحيل وأن زواجي منه أكثر استحاله.. ولكن قلبي العنيد بنبضاته المجنونة يأبى إلا الهتاف له في كل مرة أراه فيها أو أسمع صوته..
وقي ليلة فاض بها حبي عن حده، قررت أن أصارحه بكل شيء وليحدث ما يحدث.. أمسكت سماعة الهاتف بأصابع مرتجفة.. جاءني صوته الدافىء لينتشلني من غيبوبة أحلامي إلى واقع مر لا حلاوة فيه..
تسارعت دقات قلبي وأنا أهتف بقوة كيلا تخونني شجاعتي:
ــ فيصل.. أنا أحبك..
شهقة مفاجئة تلاها صمت رهيب.. وكأنه لم يتوقع.. لم يظن بأن أكون على هذه الشاكلة.. أحسست بوقع المفاجأة الكبير عليه.. رأيته بعين خيالي، ممتقع الوجه.. زائغ البصر.. وكأنه لم يحتسب هذه الفتاة الصفراء الناحله المريضة تمتلك هذه الجرأة النادرة التي تحسدها عليها المحترفات..
مرت ثواني بطيئة مملة.. وقلبي يخفق.. وكل عرق في جسدي ينبض.. انتظر الرد المستحيل، وقد أدركت خطورة ما فعلت.. فمهما كنت، ومهما كان، فأنا فتاة شرقية أولا وأخيرا.. وهو ابن عمي الشاب المتعصب الذي يمنع شقيقته من الذهاب إلى الأسواق إلا بصحبته..
ندمت.. ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن أغلق سماعة الهاتف في وجهي دون أي جواب.. انهرت في البكاء مرير، ومأساتي تجسم كل شيء في نظري.. ودموعي تسخر مني.. إلى هذا الحد هانت على نفسي؟.. أين كرامتي.. أين ترفعي وكبريائي؟..
وغيبني المرض في دهاليز طويلة مظلمة.. لأفيق بنفسي وأنا في المستشفى.. الإبر الطبية تخترق لحمي، وأجهزة وأسلاك كهربائية تحيط بجسدي العليل، وكأنها تعتصره عصرا.. وأنفاسي حارقة وقلبي ضعيف.. ودموع جافة لا تزال عالقة بأهدابي..
قال لي الطبيب وهو يبتسم..
ــ ألم احذرك من الانفعال؟
صمت وأنا انتحب.. ربت على كتفي.. الجزء الباقي من جسدي الذي لم تخترقه أجهزتهم الطبية وهو يقول:
ــ يجب أن تحمدي الله كثيرا.. فحالتك أحسن من غيرك بكثير..
خرجت من المستشفى إلى البيت إنسانة أخرى لست أنا.. أكثر انعزالا، وأكثر انفرادا بنفسي، وأكثر حزنا واكتئابا، وسؤال حاد يتردد في عقلي حائر دون جواب..
لماذا لا نحب بارادتنا، لماذا نحلم بالمستحيل ونطارد المجهول.. وتعاف أنفسنا ما بين أيدينا..
لماذا البعيد يكون دائما الأغلى والأجمل والأحب.. والمتناول يكون أبدا سلعة متداولة نملها.
حاولت أمي اختراق حاجز صمتي.. حاولت أختي برقتها المتناهية جذبي إلى عالمها الوردي.. حاول أبي بالقسوة وأخي بالتفاهم.. ولم تجد محاولاتهم في نفسي شيئا..
شخص واحد كنت انتظره.. كلمة منه كانت ستنشلني من قاع الجحيم إلى جنة من جنات النعيم.. ولكنه في واد وأنا في واد آخر، وبجرأتي معه هوى آخر صرح من صروح احترامه لي ولم يبق سوى الاحتقار والاشمئزاز والكراهية.. رأيت هذا في تباعد مكالمته لأخي وندرتها وفي نظرات أخي لي..
وفي غمرة يأسي ومرضي وضياعي.. لاحت تباشير الأفراح في بيتنا.. امتلأ المنزل بالزغاريد والبهجة، وتألقت أعين الجميع بسعادة فشلوا في كتمانها عني.. فضحتهم تصرفاتهم وخانتهم أعينهم المترعة بالنشوة..
وقبل أن أتساءل عما يحدث، جاءني الخبر صاعقا قاتلا.. الحبيب وأبن العم تقدم للزواج من شقيقتي " أمل " الفتاة الموفورة الصحة والعافية.. الجميلة الرقيقة الباسمة.. ولم يعرني ادنى اهتمام.. صدمة قوية أطاحت بكل أحلامي ومزقت قلبي.. ولكنني تمالكت نفسي بصعوبة.. وخرجت لأبارك لشقيقتي خطوبتها.. كانت تضج بالصحة والحيوية.. وفي قمة الأناقة والأنوثة والدلال.. استقبلتني باسمة، ولم تلحظ الدمعة الساخنة التي فرت من عيني..
تزوجت أمل، وطارت مع زوجها في رحلة شهر عسل.. ودخلت أنا إلى المستشفى منهارة للمرة الثانية في العام نفسه..
قالها الطبيب صريحة..
ــ لا بد من عملية عاجلة.. قلبها في حالة خطرة..
لم يكن هناك مجال للتردد.. فوافق أبي على الفور.. وهو يعتقد أنها النهاية.. نهاية وحد لكل آلامي وعذابي ودموعي..
فتحت عيني وقد كرهت كل شيء، وبت أتمنى الموت من أعماقي..
ابتسم الطبيب وهو يهمس لي:
ــ لقد نجحت العملية نجاحاً غير متوقع، مما مكنا من فتح أحد الشرايين المسدودة.. الأن بامكانك عمل أشياء ما كنت تستطيعينها سابقا.. بامكانك ممارسة الرياضة.. والضحك بلا حدود.. وحتى الزواج..
تنهدت بحسرة.. فهل يعلم هذا الطبيب وغيره بأن من كنت أتمناه قد ذهب بلا رجعه.. حطم قلبي وذهب.. فلا يهمني تزوجت بعده أو بقيت العمر كله بلا زواج..
عدت إلى البيت لأتلقى أكبر صدمة شهدتها في حياتي.. شقيقتي الفتاة الصحيحة البدن، الجميلة الرقيقة، تموت فجأة في بلاد الغربة، وأنا العليلة المريضة ما زلت على قيد الحياة..
يا سبحان الله..
وقبل أن أفيق من الصدمة المدمرة.. تلقيت مكالمة من فيصل.. أبن عمي.. وحبيبي السابق.. وزوج المرحومة أختي..
قال لي بصوت مرتعش:
إيمان.. هل مازلت.. أقصد هل.. هل ترغبين بي كالسابق؟.. وأقفلت السماعة في وجهه دون جواب!!
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

================ .. وسقطت في الهاوية ===============

أتحدث اليكم من مستشفى الأمراض العقلية.. لا لست مجنونة كما يتبادر إلى أذهانكم لأول وهلة.. بل عاقلة.. وعاقلة جداً.. أعقل من أي إنسان يعتقد بجنوني ويؤمن به.. وأعقل من كل من وصمني بهذه الوصمة إلى الأبد..
أنا الآن عاقلة وسط مجانين أحاول قد استطاعتي الحفاظ على هدوئي واتزاني النفسي.. تساعدني في ذلك الاخصائية النفسية المشرفة على حالتي..
ولأبدأ لكم قصتي منذ البداية.. منذ تلقيت أول صفعة على صدغي وأنا صبية في السادسة عشر من عمري.. لم يكن ابي من صفعني ولا أخي.. ولا حتى أمي.. كانت الخادمة الآسيوية هي التي فعلت ذلك وتلتها صفعات وصفعات حتى تعدى الأمر حدوده بأن جعلتني خادمة صغيرة لها في كل شئونها، بدءا من غسل ملابسها وحتى تدليك قدميها الخشنتين..
وكل ذلك حدث وأمي غائبة.. غائبة عن البيت وغائبة عن الوعي في المستشفى شهوراً طويلة.. لمرض بدأ صغيرا ثم طال وتشعب وغدت معه الحياة غير محتملة.. فأمضت فترة طويلة في المستشفى تتعاطى المهدئات وتخضع لعلاج لا يجدى.. فبقيت موجودة وليست موجودة.. حية بالاسم فقط دون واقع ملموس يريحني ويريح عقلي الصغير من كثرة التفكير والبكاء بغير طائل..
كانت أمي تعامل الخادمة بقسوة وتمعن في ايذائها وتحقيرها ربما لأنها تشك في سلوكها.. وبعد غياب أمي عن خارطة حياتي استلذت الخادمة تعذيبي في زيادة شقائي وتعاستي.. كنت أبكي في فراشي كل ليلة ولا أجد من يربت على كتفي بحنان ولا أجد من يواسيني ولو بكلمة.. كان غياب أمي عن عالمي مؤلماً كانتزاع قلبي من احشائي.. وقد كنت طفلتها المدللة وحبيبتها المفضلة..
حاولت أن أشكو لأبي.. أبين له ولو جزءاً بسيطا من امتهان الخادمة لكرامتي وكبريائي، لكنه كان يصدني بجفاء وهو يهتف:
ــ انت مدللة وتنتظرين من الجميع ان يعاملوك كما كانت تعاملك " أمك "
ــ ابي..
يدفعني بقسوة قائلاً:
ــ يكفيني ان الخادمة هي التي تقوم بشئون البيت.. لولاها لضعنا.. لا تحادثيني في هذا الموضوع مرة أخرى.. أفهمتِ؟
وشل لساني الصمت ودموعي تسيل على وجهي بغزارة وألمح من بين دموعي الخادمة وهي تبتسم بسخرية وعيناها تتواعدني بالمزيد من الضرب والتعذيب.. ولم أكن في حاجة لذكاء لأفهم أن الخادمة قد أثرت على عقل أبي وتفكيره واستبعد ذهني الصغير وجود علاقة ما بينهما..
ازدادت الخادمة سطوة وقوة وأبي يضع بيديها زمام الأمور ومقاليد كل شيء، حتى صرت أنا الضحية.. صبت على جام غضبها وحقدها فتحول عمل البيت كله إلي وأصبحت لا آكل إلا الفتات.. فتات مائدتها.. حاولت أن أشكو لأخوتي.. الاكبر قال لي بهدوء يتصنعه:
ــ أنا أعتقد أن هذا هو عمل الفتيات ويجب أن تساعديها حتى لا تتركنا هي الأخرى.. وفهمت بأن الأولى هي أمي.. وهي التي تركتنا..
وبكيت.. بكيت بحرقة وأخي ينظر إلي صامتا مكتوف اليدين لا يستطيع أن يفعل حيالي شيئا..
أما أخي الاصغر فلم يلق بالا وقد سلبته عقله هو الآخر كأبي..
لم أجد سوى أمي.. يجب أن تفيق من غيبوبتها.. يجب أن تعرف كل شيء..
وانتهزت فرصة غياب الخادمة وزرت أمي خلسة.. صدمت لمرآها صدمة هزت كياني وهوت بي إلى الحضيض.. انها ليست أمي التي أعرفها.. ليست الشابة التي تنضح بالصحة والحيوية والجمال.. انها هيكل.. هيكل امرأة.. أشبه بالميتة.. بل انها ميتة فعلا ولم يبق إلا إعلان وفاتها رسمياً..
الأنابيب والأسلاك الكهربائية تحيط بجسدها من كل جهة.. حتى انفها الشامخ تخترقه انبوبة طويلة وددت لو انتزعها.. أمي.. أمي..
صرختها بأعماقي.. لا مجيب.. هززتها بقوة وأنا أناديها ولكنها لا ترد على ندائي..
وحين طوقني اليأس بأسواره الرهيبة صرخت بأعلى صوتي:
ــ أمي استيغظي أرجوك..
وتحشرج صوتي بالبكاء لافاجأ بجيش من الممرضات ينتزعنني بقوة من بين أحضانها..
لمن الجأ ولمن أشكو وقد سدت الطرق في وجهي وتحول الناس إلى وحوش آدمية.. لمن أذهب وأي سبيل اسلك؟..
ووجدت قدمي تتجهان تلقائياً إلى بيتنا.. بيتنا الذي كان واحة أمان وجنة من الحب والود والتفاهم وتحول بقدرة قادر إلى عذاب لا طاقة لي باحتماله.. وكانت المفاجأة تنتظرني اذ لمحت الخادمة في حجرة أمي ومع ابي نفسه دون أحد غيره..
وتتوالى المفاجآت اذ طلبت الخادمة من أبي وعلى ومرأى ومسمع مني أن أترك المدرسة.. بهت.. نظرت إلى أبي بذهول وكأنني أتوقع منه أن يضرب الخادمة أو يصفعها أو يطردها على أقل تقدير.. ولكن اللطمة كانت موجعة والعذاب كان أكبر من قدرتي على التحمل اذ هز رأسه بعلامة الموافقة، وكأنه واقع تحت تخدير قوي..
وما هي إلا أيام حتى غدوت خادمة لخادمتنا بشكل رسمي لا أثر فيه لشك أو تساؤل.. تركت المدرسة وقبعت في البيت أكنس وأغسل وأطبخ غير الطلبات الأخرى الجانبية للخادمة واهانتها لي التي لا تنقطع..
فوجئت بنفسي محاصرة من جميع الجهات واليأس يدب في أعماقي ولا حتى بارقة تلوح في الأفق.. ولا أحلام تساعدني على النسيان..
وفكرت في القتل.. نعم لا مفر من قتلها.. أقتلها وأستريح ويستريح أبي من سيطرتها واخوتي من ازعاجها المستمر لهم وشرها المسيطر..
وتغلغلت الفكرة في اعماقي وتمكنت مني لدرجة الوسواس.. وكلما ازدادت الخادمة تعذيبا لي تعلقت بفكرتي أكثر وأكثر.. حتى عزمت اخيراً على التنفيذ.. ولم أنم تلك الليلة..
مضيت طوال الليل ساهرة أفكر ولم يغمض لي جفن..
وفي الصباح المبكر كنت استل اكبر سكين في المطبخ واتوجه بها إلى حجرتها.. حجرة الخادمة.. لكن المفاجأة اخلت توازني.. لم تكن وحدها في الحجرة، كان معها أخي الاصغر.. لم تكتفي بأبي بل سلبت عقل أخي أيضاً.. وقبل أن اصرخ أو أنطق بأي كلمة نهض أخي بسرعة الصاروخ وانتزع مني السكين وخرجت هي تصرخ قائلة:
ــ مجنونة.. مجنونة.. مجنونة..
ولم أحس بنفسي إلا وأنا انتحب بحرقة.. أبكي فشلي وأبكي انحراف أخي وأبي وأبكي أمي المريضة وأبكي سيطرة هذه المرأة على الأسرة بكامل أفرادها..
وكما توقعت تماما.. ايدها أخي روايتها عن جنوني.. وصدقها أبي ودمعت عينا أخي الاكبر وساقوني جميعاً إلى مستشفى الأمراض العقلية كما يساق المجانين.. ورفضوا تحمل مسئوليتي، ومنذ تلك اللحظة منذ عشر سنوات لم أر احدا منهم.. وأنا لا افكر سوى بالانتقام.. وسأنتقم يوما ما..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

^^^^^^^^^^^^^^^ امرأة في بيتي ^^^^^^^^^^^^^^

الحكم بالإعدام نطقته الطبيبة بلا اهتمام، وكأنها تلقي نكتة مضحكة.. أو حكمة طريفة.. قالت وهي تعبث بسماعتها الطبية:
.. الأمل معدوم.. لن تستطيعا الانجاب.. سوى بمعجزة إلهية..
التقت نظراتي وزوجي.. نظراتي اليائسة الخائفة بنظراته القلقة الحزينة.. فتعالت الشهقات داخل نفسي.. شهقات باكية متضرعة تدوي في رأسي كالمطارق الحادة وتصم آذاني عن سماع أي شيء بعد هذا الحكم الرهيب..
تشابكت أيدينا بعصبية ظاهرة تجمعها المأساة المشتركة ويعصرها الألم الممض الذي يضرب بجذوره داخل أنفسنا ليمزقنا حتى الضياع..
قبل أن نخرج من حجرة الطبيبة.. أردفت بصوت بارد وهي تمضغ احلامي:
ــ لا تيأسا من رحمة الله.. إنه على كل شيء قدير..
لم استطع مقاومة نفسي أكثر من هذا.. فهطل الدمع من عيني غزيراً.. حارا.. موجعاً.. بقدر يأسي وعذابي وحزني.. سبحان الله كم تتبدل الأحوال.. قبل فترة قصيرة ارقص من فرط السعادة بعد أن اخبرتني جارتي بأن هذه الطبيبة هي أفضل طبيبة في العالم العربي..
وان شقيقة جارتها " سعاد " قد حملت على يديها بعد عقم دام سبع سنوات.. وأيضاً فاطمة ابنة عم زوجها قد انجبت " توأما " بعد علاجها لدى هذه الطبيبة الرائعة..
وسناء.. وسارة.. و.. حتى طار عقلي.. ودارت معه أحلامي.. فركضت إلى زوجي أزف له البشرى بأن الطبيبة التي نتداوى على يديها.. يدها مبروكة وأن المئات من فاقدي الأمل في الإنجاب قد رزقهم الله بأطفال على يديها.. ابتسم زوجي برقة وهو يقول:
ــ اننا لن نفقد الأمل أبدا بإذن الله، وسنرى ماذا تكون عليه النتيجة النهائية للتحاليل.
ليلتها لم يغمض لي جفن.. سكن الحلم عيني، فلم استطع إغماضهما.. وصراخ الطفل وضحكاته.. ولفتاته كلها داعبت أطياف أحلامي.. ولكن الحقيقة القاسية كانت اللطمة الكبرى التي أفاقتني على واقعي المرير.. أنا لا أنجب.. معني هذا أنني شجرة جدباء.. امرأة فاشلة لن استطيع تكوين بيت واسرة.. يكفي أنني لن احقق لزوجي حلمه الأوحد بأن يكون له ولد يحمل اسمه..
وقفت امام زوجي ارتجف كورقة خريفية تتقاذفها الرياح.. قراري الذي اتخذته كسا وجهي بملامح صارمة مخيفة.. أبدا إنها ليست ملاحمي..
بصوت حاسم قلت له:
ــ سالم.. يجب أن تتزوج بأخرى..
فوجىء.. واجهتني عيناه بتساؤل صامت ودمعة حائرة تلوح في مقلتيه.. تابعت بحرارة:
أرجوك افهمني.. أنا لا أستطيع أن أحقق حلمك بالإنجاب.. من حقك ان تتزوج.
صمت.. طال صمته حتى تجاوز حدود أحلامي.. وأيقنت من خلاله أن قراري الذي اتخذته لم يكن إلا صائبا..
اخيرا قال بتداعٍ:
ــ ولكن.. أنا لن أحب غيرك يا سلمى..
تهاويت في فراشي باكية وأسرار اليأس تحيط بي وتطرق كل شيء في حياتي..
هل هذا هو موقف زوجي من قراري الخطير؟ هل هذا هو رد على تضحيتي الكبرى؟ موافقة ضمنية مغلفة بأسى.. هل توقعت هذا عندما فكرت بالتضحية باستقراري وسعادتي من أجله.. وماذا أتوقع من رجل عاش محروما من الإنجاب مدة عشر سنوات بدون أن يشكو أو يتبرم..
هل كنت ظالمة له طوال تلك المدة.. وتضحيتي هذه كان زمنها من سنوات خلت..
خنقتني الاسئلة الحائرة.. وأنهكتني أفكاري النتسائلة.. ومن بين ضباب دموعي رأيته يربت على كتفي بحنان..
قلت له ببرود:
ــ متى ستتزوج؟..
أجابني بانكسار:
ــ لندع كل شيء لأمي.. وللظروف..
لم تتوانى والدته عن تقديم كل مساعدة ممكنة له.. وفي ليلة زواجه.. الليلة التي سوف ينتزعونه فيها من بين أحضاني بقسوة.. اقتربت منه ببطء وأنا احاول إصلاح هندامه كعادتي كل يوم.. اغتصبت ابتسامة وأنا أهمس له:
ــ أنت اليوم عريس.. ويجب أن تكون في قمة أناقتك..
أخفى وجهه بين يديه.. وبكى بمرارة.. عندها فقط أدركت أنني فقدته إلى الأبد..
تواريت في إحدى حجرات المنزل وأنا أقاوم غثياني.. لمحته وزوجته الجديدة.. إنها رائعة رغم أنني افوقها جمالاً..
عذبتني المقارنة.. فألقيت بنفسي في سريري البارد لا تقيأ ما في جوفي وصور زوجي لا تغادر عيني..
لماذا أضحي فجأة بمن يمثل كل شيء في حياتي؟.. لم أشعر الآن بأن حياتي قد انتهت عند هذا الحد، وأن لا أمل في غد مشرق أو مستقبل باسم سعيد.
لم استطع مقاومة نفسي حتى النهاية.. فأسرعت أطرق باب حجرته.. مرت فترة طويلة قبل أن يسفر الباب عن وجهه القلق.. لمحتها مكاني على السرير.. انتفض قلبي بين ضلوعي ألماً وعذاباً..
تساؤل صامت في عينيه لم يجرؤ النطق به لسانه.. همست وأنا ألهث:
ــ سالم أنا متعبة.. أريد الذهاب للمستشفى..
التفت إلى الخلف متسائلاً بحرج:
ــ الآن؟!!
همست بضراعة:
ــ الآن.. أرجوك..
استأذنني في ارتداء ثيابه.. والظلام من حولي يشتد.. وعذابي يتضاعف.. وغثياني يزداد ضراوة..
هل كتب علي العذاب.. وأنا أرى زوجي الذي عشت وإياه في جنة من الأحلام.. رجلاً لامرأة أخرى تحتل سريري وذراعي زوجي ومخدتي..وحتى أحلامي.. ويكون نصيبي من هذا كله مجرد فراش صغير في حجرة باردة مظلمة لا يملأها إلا السراب..
امتلأت عيناي بالدموع وأنا أرى زوجي يستأذن زوجته الجديدة..
وفي الطريق إلى المستشفى قال لي ووجهه يشي بغضبه:
ألم تستطيعي أن تؤجلي كل شيء إلى الغد؟..
شرقت بدمعي ولم أرد.. تابع وكأنه يلومني:
ــ أرجو أن تسيطري على مشاعرك مرة أخرى.. فهذه الأخرى اصبحت زوجتي.. ولها من الحقوق مثل مالك تماما.. يجب أن تفهمي هذا جيداً..
غرقت في لجة من الصمت وإحساس معذب يخترق وكياني بأنني وحيدة في الحياة كقارب صغير فقد مرساه، فمضى تتلاطمه الأمواج حتى أشرف على الغرق..
أفقت على المفاجأة التي زلزلت كياني.. الطبيبة نفسها التي حطمتني قالت بحماس:
ــ مبروك.. انت حامل.. إنها معجزة إلهية نادرا ما تحدث في مثل حالتك.. مبروك مرة أخرى..
ولم أسمع بقية كلماتها فقد تهاويت بين ذراعي زوجي فاقدة الوعي..
افقت بعدها على إحساس طاغ بالسعادة.. عجباً لهذه الدنيا المتقلبة.. البارحة فقط كانت الدنيا في نظري سوداء حالكة كالليل البهيم.. والآن انقلب السواد إلى بياض مبهر.. وتحولت الأشواك إلى رياحين والمخالب القاسية إلى أياد ناعمة تهدهدني بكل الحب والحنان..
هتف زوجي والفرحة الصاخبة تضطرم في أعماقه:
ــ مبروك.. مبروك لنا المولود القادم..
ابتسمت له برقة.. ولكنني تذكرت.. تلك القابعة في داري.. على نفس سريري.. وتشاركني في زوجي.. تلاشت أطياف السعادة وسط ضباب الواقع الكثيف..
هذا الطفل الذي تمنيته طويلاً أحسست بأنني لا أريده..
وما يفيدني الطفل وزوجي ليس إلى جواري.. ما نفع طفلي وزوجي يلتمس السعادة مع أخرى ستكون هي أيضاً أم أولاده..
تحدرت الدموع على خدي وزوجي يقودني نحو بيتنا.. إنه لم يعد بيتي أنا وحدي.. ولم أعد أنا سيدته الوحيدة..
بكيت بشدة أمام باب البيت.. شدني زوجي برقة إلى الداخل..
دارت عيناي في أرجاء المكان بحثا عنها.. دخل زوجي إلى حجرته.. عاد بعد لحظات وبيده ورقة وعلى وجهه علامات قلق شديد..
سلمني الورقة بصمت.. قرأتها بسرعة..
" أنا لست لعبة بيديك.. أرجوك طلقني "
(( زوجتك الثانية ))
نظرت إليه بخوف ودموعي تهطل بغزارة..
ابتسم فجأة.. ثم ضحك بشدة وهو يقول:
ــ ما رأيك.. أليس هذا هو الحل المناسب للجميع؟..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

$$$$$$$$$$$$ أبداً.. لا يغدو المنفى وطناً $$$$$$$$$$$$

إلى أين؟
ويتفجر السؤال فقاعات صغيرة تتغلغل في ذاتي بلا انقطاع.. تتولد أسئلة ثم تتوالى الاستفهامات وتخترقني بأنصالها الحادة.. ماذا بعد؟.. كيف؟ متى؟.. وإلى أين؟..
لقاؤنا الأول كان عبر الهاتف.. خطأ في الرقم قادنا إلى حكايات صغيرة، متسلسلة.. كانت تلك الحكايات، بحيث كان لابد من اتصال آخر وآخر.. ثم آخر.. صوته يتعمق في شراييني ويتخللها ويذوب في الدماء.. تصورته بعين خيالي حالما رومانسيا انيقا.. أحببت تلك الصورة كثيرا وعشقت خيالي لدرجة رهبت بها دنيا الواقع.. وآه من هذا الواقع الذي لا يدريه.. رغم كل القصص التي روينها لبعضنا، وكل الضحكات التي تبادلناها سويا.. وكل التفاصيل الصغيرة التي طرقناها معا.. حتى خفقات قلبينا النابضة على استحياء..
لم يعلم بواقعي البشع.. لم يدر أية امرأة تلك التي تحادثه.. لم يعلم بدنياي المتخمة بالمآسي ونفسي المثخنة بالجراح وذيول الخيبة التي اجرجرها ورائي في كل مكان أسير اليه.
وهل استطيع ان اعلمه بكل شيء دون ان ابكي.. دون ان اصرخ.. دون أن تمزقني الآهات وتحرقني الزفرات.. دون أن اذيب اسلاك الهاتف بحرارة الداخل والدموع التي تنهمر بلا حساب..
هل يتغير شيء حينما يعلم بالماضي الذي أرزخ تحت قيده والأيام التي أمضيتها في عذاب وأنين.. هل تتغير نظراته وبالتالي كلماته وحكاياته.. هل واقعي منفر لدرجة اليأس.. امرأة مطلقة، في ماضيها بصمات لا تنسى لرجل بلا كرامة ولا كبرياء ولا حتى رجولة وأطفال خمسة بعيون تائهة حيرى وصفعات وجراح لا تندمل..
رياح الماضي المشبعة بالعفونة والذل لا تزال تلفح اجوائي وتغتال أيامي وتلبس انتظاري الآتي ثوب السواد..
مرارة التجربة لا تزال عالقة بفمي وآثارها الدامية على كل جزء من جسدي، ونتائجها ترافقني في وجوه أطفالي الخمسة، ثلاثة عشر عاما أو يزيد من التعاسة المحضة.. كيف نسيتها كلها وانتزعتها من عالمي ومضيت أتحدث كفتاة لاهية في ربيع العمر.. قمة الفرح والأمل والحيوية.. كيف تجاوزت كل شيء وتحدثت بهدوء رغم البركان الذي يغلي داخلي..
أتعجب.. عشرات التساؤلات تطرق رأسي.. كيف ضحكت..؟ كيف تكلمت؟.. بل كيف تجاوبت وحكيت؟
تبادلنا الحديث بكل شيء، بيد أننا لم نطف بحديث حب.. ولا أشواق تعصف في الفؤاد.. ولا أنات تعتصر المشاعر وتحيل كل شيء إلى لهيب.. اغفاءة لذيذة يحملني اليها بعيدا عم واقعي المعذب.. تتلاشى المرأة الكسيرة داخلي المثقلة بالأعباء والمضمخة بالحسرات، ويعود الزمن اعواما إلى الوراء، فينطلق صوت فتى لا علاقة له بصوتي.. وروح مرحة ابدا ليست روحي وتتألق العينان بوميض الفرح ويعربد الجنون.
هل من حقي أن اعايش هذا القلق الممتع.. والانتظارات المبطنة بأجواء الترقب واللهفة..
الارق الحالم وخطواتي الراقصة.. ابدا لا يغدو المنفى وطنا!!
الأيام تترى.. تندمل الجراح القديمة.. شعرت باحساس غريب، لم اعرفه من قبل.. خليط من الفرح والترح، السعادة والتعاسة، ومضات من الأحلام تخدرني حتى أصير إلى سراب..
اللقاء الثاني لم يضق به علامي الرحب.. كان مصادفة.. لم يسمع إليه أحدنا.. تناهى إلى سمعي صوته الرائع.. ذات الصوت.. اتبعته تلك الضحكة الصاخبة المميزة.. ذات الضحكة.. سرى في جسدي ما يشبه التيار.. التفت بغتة.. رأيت روىء العين.. هل هذا.. هو.. ماذا أقول؟ فتى أحلامي.. لا ليست لي أحلام.. إذن هو ذلك الرجل الذي قلب حياتي رأسا على عقب وحرمني القدرة على التميز
نعم انه هو بصوته اللاهي وضحكته العابثة.. انه مع ثلة من أصدقائه.. ترى ما الذي يضحكه؟
أعادتني صغيرتي إلى أرض الواقع وهي تصرخ غاضبة.. شقيقها خطف لعبتها، طفلي الرضيع تقيأ، رفضت شقيقته الكبرى أن تحمله، جذبني ابني الأوسط من يدي بقوة.. سرنا معا.. لم التفت ورائي..
تلك الليلة.. الهاتف يرن بإلحاح.. ودموعي تتحدث..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

==============(( الضحية )) =================

كنت طوال حياتي ضحية.. ضحية الظروف وضحية المجتمع وضحية أمي وأبي وحتى إخوتي.. وفي مراحلي الدراسية كنت ضحية للجميع!! مازالت ذاكرتي تستعيد ذلك الموقف الموجع من أيام دراستي وحتى هذه اللحظات.. ففي نهاية المرحلة الابتدائية اتفقت الطالبات على أن يعاقبن احدى المعلمات على قسوتها الشديدة.. فوضعن لها دبوساً أسفل المقعد.. وما أن جلست حتى صرخت بقوة.. ثم تحول الفصل إلى مجلس تحقيق انتهى بإجماع الطالبات على اتهامي بالجريمة.. نعم أنا الفتاة الضعيفة الرقيقة.. الحزينة دائماً.. الصامتة أبدا.. اتهموني رغم أنه لم تكن لي أدنى صلة بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد.. أمسكت المعلمة بتلابيبي وهي تهزني بشدة.. لم أتكلم.. لم أنبس ببنت شفة.. ظللت على صمتي ودموعي تنثال على وجهي بغزارة..
ثم عوقبت على ذنب لم أرتكبه.. عوقبت من معلمة ومن إدارة المدرسة ومن أمي وأبي.
ليس هذا هو الموقف الوحيد الذي أوضح لي موقفي من الحياة.. بل سبقته وتلته مواقف كثيرة موجعه ومعذبه، عرفت منها لماذا وكيف أصبحت شخصية مهزوزة ضعيفة وضحية لكل الناس.. فقد كانت أمي كذلك وأبي يستعبدها بإذلال مقت.. كان يضربها ويهينها ويذلها وهي خانعة صامتة تسكب دموعها في صمت، وأحيانا تصيبها لحظة جنون فتحطم كل شيء حولها، تضربنا وتصرخ ثم تبكي بعنف.. وتعود إلى هدوئها وصمتها وذلها.. وهكذا كانت الحياة تدور في بيتنا الصغير.. وهكذا خرجنا أنا وإخوتي إلى الدنيا.
أنا ضحية وأخي مدمن مخدرات وإخوتي الصغار مسيرون دائماً بلا رأي وبلا أي خيار..
حتى تزوج أبي بأخرى.. امرأة غير أمي، وتختلف عنها في كل شيء بدءاً بالدلال وانتهاء بالشخصية القوية المتفجرة..
عندها انهارت أمي وتحولت إلى كائن آخر.. تمشي بلا تفكير وتتحدث بلا صوت وتبكي بلا سبب.. وأبي لا يزورنا إلا نادراً.. وفي تلك الأحوال النادرة يجلس صامتا قرب الباب الخارجي كأي غريب لا يمت لنا بصلة قرابة.. فنشأ حاجز من الخوف والتباعد بيننا وبين أبي.. لا نحن قادرون على تخطيه ولا هو بقادر على اجتيازه.. وصرت ضحية الاثنين.. ضحية أنانية أبي وضحية انهيار أمي.. وتحملت المسئولية كاملة.. مسئولية أمي المنهارة ومسئولية غياب أبي ومسئولية انحراف أخي وحتى مسئولية اهدار طفولة إخوتي..
وفي يوم ممطر كئيب حضر أبي لزيارتنا.. في عينيه لمعة غريبة وفي ملامحه فرحة طفولية صاخبة.. أحسست بالخوف قبل أن أعرف ما يدور في عقل أبي.. ولكنه قال بعد فترة صمت طويلة:
ــ قريبا ستتزوجين يا تهاني.. وزوجك فيصل شاب مستقيم.. سيسعدك إن شاء الله.. نظرت إليه بذهول وقبل أن أنطق تابع قائلاً بتردد:
ــ إن زوجك هو شقيق زوجتي زينب.. زواجك سيتم بعد شهر.. استعدي يا ابنتي وخرج بعد أن تركني غارقة في ذهولي.. كيف وأين ومتى؟ كيف أتزوج وأنا مازلت أدرس في المرحلة الثانوية وبيني وبين الزواج أميال من التفكير والعقد والدموع؟
كيف أتزوج من رجل لا أعرفه ولم أره يوميا وأكثر من هذا انه شقيق زوجة أبي؟ لماذا أتزوج فجأة وفي غضون أسابيع معدودة دون أن أعرف من هو زوجي وكيف يفكر وطريقته وأسلوبه في الحياة؟
لجأت إلى أمي.. أعلمتها الخبر بهدوء.. نظرت إلى بتساؤل ثم دمعت عيناها وبكت.. ولم آخذ منها سوى الدموع.. والمزيد من الدموع..
تزوجت فيصل باحساس الضحية وبشعور صارخ بأنني مظلومة والكل ظلمني حتى أقداري، تزوجته مرغمة مكبلة بقيود لا أستطيع لها فكاكا أولها أبي وليس آخرها زوجته المسيطرة..
لم يكن قاسيا كأبي ولم يكن رقيقا حالما كما تمنيت دائما أن يكون.. كان مجرد آلة صماء في يد شقيقته تحركه كيفما تشاء وأينما تشاء.. لا أنكر أنه يحبني، ولكن حبي له تلاشى وأنا أراه خاضعاً لشقيقته يخبرها بكل شيء.. عباراتنا على شفتيها، همساتنا تنطق بها عيناها، وحركاتنا وسكناتنا تدور داخل فلكها وتحت أوامرها الصارمة.. إذا ارادت له أن يحبني يحبني بشغف، وإذا ارادت له أن يكرهني كرهني بمقت..
طلقني مرة من أجل عينيها ثم أعادني لأنها فقط أرادت لي أن أعود.. واحساس الضحية داخلي يزداد ويتعاظم حتى قررت في لحظة أن أثور.. أن أتمرد.. لن أكون ضمن قطيع الرعاع الذي تحكمه هذه المرأة.. لن أكون كأبي وزوجي وأخي الذي انضم إلى لوائها أخيرا.. لن تحطمني كما حطمت أمي وسلبت منها كل شيء.. أولها الزواج ثم الأنباء وليس آخرها الحب والسعادة..
لن أكون ضحية لها كما كنت ضحية لظروفي من قبل.. سأستعيد شخصيتي وأقف لها ندا ندا، وأنسحب من حياتها غير آسفة عليها..
استقبلت زوجي بثورة غريبة لم يعتدها مني.. صرخت في وجهه بقوة:
ــ فيصل.. طلقني.. طلقني.. والآن فورا..
بهت.. تلجلج في الكلام.. ضحكت بسخرية مرة وأنا أقول:
ــ أعرف أن الأمر ليس بيدك.. ولن أحرجك أكثر من هذا، هيا إلى زينب، فهي القادرة على اتخاذ القرار..
وما أن وقفنا أمامها بطلعتها المهيبة وشخصيتها القوية التي تبدو من خلال عينيها حتى أحسست بالانهيار الكامل.. وانني لست إلا ضعيفة منهارة كأمي..
حدجتني بنظرة نافذة وهي تقول:
ــ سمعت أن هناك مشكلة.. ما الأمر؟
ــ قلت بسرعة أدهشتني:
ــ لا.. لا شيء..
وعاد إحساس الضحية يلفني من جديد.. وعرفت أنني لن أكون إلا ضحية.. ضحية للظروف وضحية المجتمع وضحية لأمي وأبي وحتى إخوتي..

 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0
&&&&&&&&&&&&&&&&&& لقاء لا ينسى&&&&&&&&&&&&&&&&&

في قرية صغيرة.. بين أحضان الجبال الشاهقة تعرفت إليه.. كنت اصطاف مع أسرتي في تلك القرية الجميلة حينما رأيته لأول مرة.. كان شاب وسيما وسامة تبهر الأعين وتلفت إليه الأنظار.. تقدم لأبي عارضا المساعدة بعد أن تعطلت بنا السيارة في طريق جبلي وعر، تحف به الخضرة من كل جانب.. ترجلنا جميعا من السيارة ليحاول ذلك الشاب الشهم إصلاحها.. رمقته بطرف عيني بإعجاب متزايد، فقد جمع بالإضافة لوسامته وشبابه مهارة في الأعمال اليدوية يندر وجودها.. كان لا ينظر نحونا أبدا وأبى منهمك معه في إصلاح السيارة.
التفتّ لأرى جمعنا قد تفرق.. ذهبت أمي وشقيقاتي الصغيرتان ليداعبا صغار الغردة التي تنتشر حولنا في كل مكان، بينما انشغل شقيقاي الصغيران بجمع بعض الأعشاب والحشائش. نظرت إلى الهوة العميقة التي تقع أسفل الجبل.. أحسست بدوار وإعياء شديدين يلف كل أعضاء جسدي.. صرخت مرغمة.. التف الجميع حولي.. أبلغت أمي بصوت خافت بأنني لا أستطيع الوقوف وأشعر بغثيان شديد ودوار.
دست أمي في فمي قطعة حلوى، سرى مذاقها الرائع في كياني بقوة.. لكنني لم أتحسن.. أخبرت أمي بذلك بصوت متداع.
همست أمي لأبي بكلمات لم استطع سماعها وأن تفتني نظراتها القلقة.
تناقش أبي وذلك الشاب الوسيم لفترة من الوقت، وبعد ذلك جاءني أبي هاتفا في حنان:
ــ ستذهبين الآن يا ندى إلى المستشفى مع هذا الشاب.. تسارعت نبضات قلبي.. لا أدري مرضا أم فرحا.. وهتفت مرغمة:
وحدي؟
أجابني برقة:
ــ بالطبع لا.. فقد استقر رأينا على أن أبقى أنا بجوار أمك وشقيقاتك والسيارة المعطلة وتذهبين أنت مع شقيقيكِ وهذا الرجل الشهم.
ثم أردف بعد هنيهة صمت:
ــ لا تخشى شيئا يا ندى انه شاب أصيل وابن عائلة، وقد كشفت لي المصادفة أنه يمت بصلة قرابة لأحد أصدقائي في مدينتنا.
أحسست بالدوار مرة أخرى يقعدني عن القيام.. اسندتني أمي إلى ذراعها وأجلستني في سيارة ذلك الشاب الذي عرفت اسمه من مناداة أبي له"عبد الله"..
همست لي أمي:
ــ لا تنسي.. أخبري الطبيبة بكل شيء.. اعلمها بأن لديك مرض السكر في الدم وانك تتعاطين حقنا يومية..
أوشكت على البكاء وأنا أجيب أمي بـ "نعم".. اتخذ الشاب مقعده خلف المقود وإلى جواره شقيقاي الصغيران اللذان لا يتعدى أكبرهما الثامنة من العمر.. وانطلقنا بسرعة لم أعهدها في أبي بصورة لم تمكنني من رؤيتها على الوجه الصحيح..
سألني الشاب بصوت كأنه خرير المياه:
ــ هل أنت بخير؟
أجبت بصوت خافت وقلبي يهتف بجنون:
ــ نعم..
قال أخي الصغير: اتركها لا تسألها شيئا إنها دائما مريضة ومزعجه وفي البيت تضربنا دائما وتطردنا من حجرتها..
ضحك الشاب طويلا وأنا أشعر بقلبي يغوص داخلي وغضبي يشتعل من أخي الصغير الذي يكبره قليلا:
ــ أتصدق إنها ضربتني ذات يوم لأنني سكبت على شعرها الصابون.. ان شعرها طويل جداً ومزعج..
واستمر الشاب الوسيم يضحك.. وددت لو احطم أضراسة.. هنا لم استطع السيطرة على مشاعري وصرخت غاضبة:
ــ اصمتا أيها الأحمقان و إلا اخبرت والدي.. ثم هذا ليس نكتا لتضحك منها أيها الشاب.. المفروض ألا تشجعهما على قلة الأدب.
تجمدت الابتسامة على شفتيه وتمتم بكلمة "آسف".. أشفقت عليه وعلى ملامحه الوادعة من كلماتي السامة ولكنني لم أتراجع..
بعد فترة من الصمت سألته بقلق:
ــ ألا يزال المستشفى بعيدا؟
قال بهدوء:
ــ خلال ربع ساعة سنصل إن شاء الله..
لكنني لم استطع التماسك أكثر واغمي علي وأنا في السيارة.. افقت وأنا في المستشفى وحولي الطبيب والممرضات والشاب الوسيم، وفي كل ذراع من ذراعي إبرة مغذية، ووجهي مكشوف وشعري ينساب على جوانب السرير بدون غطاء أو حجاب..
صدرت مني آهة فزع على الرغم مني.. اقترب مني الطبيب باسما وهو يقول:
ــ هل أفقت؟.. الحمد لله.. هل تشعرين بأنك الآن أحسن؟.
لقد كان شقيقك ذكيا فأخبرنا بما تعانين..
تلعثمت بالإجابة وأنا غارقة في حيائي، فهذا الشاب قد رآني مرأي العين.. ولم تخف عليه أي خافية.. لم استطع التفوه بكلمة لشدة الخجل..
قال الطبيب:
ــ الفضل لله ثم لهذا الشاب.. لقد حملك على ذراعيه فترة طويلة حينما لم يجد موقفا لسيارته..
اندفعت الدماء إلى وجهي وأنا اشعر بحرارتها اللاهبة، ولم استطع أن ارفع عيني بعد ذلك في العيون المتطلعة لي.. غادر الجميع بعد ذلك الحجرة بعد أن قال الطبيب:
اطمئني ستغادرين المستشفى حالما ينتهي هذا المغذي..
اقترب مني الشاب الوسيم قائلا باستحياء:
ــ أعذريني لم استطع أمام حالتك إلا أن أعمل ما في وسعي لإنقاذك..
وحينما لمح ابتسامة الخجل على وجهي تابع بمرح:
ــ وقد كنت خفيفة للغاية ككيس من القش..
وحينما خرج الجميع تنهدت براحة كبيرة، ولكن شيئا ما بقى عالقا في أعماقي.. ربما نظرات هذا الشاب.. بريق عينية وهو ينظر لي باعجاب.. أنا أنكر جمالي الباهر ولكن ترى ها أعجبته؟ وهو عرف من الطبيب بقصة مرضي؟ ترى أكانت نظراته تعبر عن حنان ورقة أم شفقة مرة..؟
خرجنا من المستشفى لنعود للمكان الذي تركنا فيه أهلي فوق الجبل.. كنا أقل مرحا وأكثر صمتا وقد توطن شيء ما في القلوب الصغيرة.. لم نعد كما كنا من قبل ابدا.. انشقل شقيقاي في الحديث مع بعضهما عن معالم الطريق.. انتهز هو الفرصة ووضع شريط كاسيت وانسابت أغنية حالمة.. من حنجرة احدى المطربات تقوقعت في مقعدي وأنا ارتجف بعنف.. قال بصوت رقيق:
ــ ما رأيك في هذه الأغنية؟..
ثم سأل بنعومة: ألا تناسبك؟..
غرقت في الصمت وانفعالات شتى تجوب كياني وتحلق بي في عوالم فاتنة لم يطرقها سوانا، أصبحت السماء أكثر زرقة والطبيعة أشد اخضرارا والبلابل تغرد في كل مكان.. ثم انسابت الاغنية التالية أشد وقعا وأكثر تأثيرا من آلاف الكلمات..
طفرت عيناي دموعا لم أدر لأي سبب كانت.. أهي حب.. أم خوف.. أم استحالت اشفاقا مما هو آت؟
ومضى الوقت بسرعة غريبة وأنا غائبة عن كل ما حولي في دنيا أخرى وعالم آخر لم أعرفه من فبل.. قد سمعت كثيرا عن الحب من أحاديث صديقاتي ومغامراتهن.. لكنني لم أتصوره بهذا الطعم الحلو اللاذع، الذي يمتزج فيه كل شيء بأي شيء.. تمتزج فيه المرارة بالحلاوة بالخوف بالفرح بالدموع.. رباه ما هذه المشاعر العاصفة التي تمور داخل نفسي الحائرة وتعبث بقلبي وبنبضاته التي باتت غير منتظمة..
أيقظني صوته الدافىء وهو ينادي باسمي.. ازدادت نبضات قلبي حتى خلته سيقفز من مكانه سألني برقة:
ــ أيمكن.. أقصد أن نلتقي بعد ذلك؟..
وفي لحظات استبد بي غضب مفاجىء.. ماذا يظنني هذا المعتوه؟ لعبة بيديه يلهو بها ثم يحطمها.. أو فتاة من أولئك اللاهيات العابثات اللاتي لا هم لهن سوى التنقل من شاب لآخر..
عزمت على أن اوقفه هند حده.. هتفت بحدة متجاهلة وجود شقيقيّ:
ــ ماذا تظنني أيها الشاب؟ آسفة فلست من أولئك..
معذرة يا آنسة.. فأنا الذي يجب أن أتأسف..
انبرى شقيقي الأصغر قائلا:
ــ دعها ولا تتأسف لها.. إنها لا تستحق كل هذا التعب من أجلها، إنها تستحق الضرب.
خُيل لي من صفحة وجهه الجاذبية أنه يبتسم.. أحسست وكأن قلبي ينقبض فجأة وقد أدركت أخيرا بأن الحب تسلل إلى قلبي..
وصلنا إلى مكان أهلي.. استقبلتني أمي بحرارة وهي تسألني عن نتائج الفحوصات.. وانطلق أبي يتحدث مع الشاب حديثا طويلا، فهمت منه أن سيارتنا لن يتم إصلاحها بسهولة، وسيوصلنا هذا الشاب إلى مقر اقامتنا في الفندق على أن يعود هو وأبي لاحقا لسحب السيارة المعطلة.. ركبنا سيارة الشاب، ورغم اتساعها فقد بدت ضيقة وهي تقل العائلة بأسرها.. لم يتحدث احد طوال الطريق سوى أبي وهذا الشاب النبيل مما أتاح لي أن أعرف الكثير عن حياته وأهله وطموحاته..
مضت عطلتنا كأجمل ما تكون.. وهذا الشاب يرافقنا في تنقلاتنا الكثيرة دون أن يهمس لي ولو بكلمة..
وعرّفنا بأهله ذات يوم.. فأذهلتني بشاشتهم وحسن ضيافتهم، وكانوا مبهورين بي طوال فترة الضيافة..
لذلك لم أفاجأ حينما انتحى بي أبي جانبا ذات يوم وهو يقول:
ــ إن عبدالله شاب مهذب وخلوق، بالإضافة إلى انه يحمل مؤهلا عاليا.. فما رأيك؟
لقد تقدم عبدالله لطلب يدك..
لم أرد وإن علمت حمرة الخجل خدي.. ولكني بعد برهة قلت لأبي بهدوء:
ــ ولكن.. هل عرف بمرضي يا أبي؟
ابتسم أبي بحنان وهو يقول:
ــ انه يرغب بك كما أنت، ولا يهمه مرضك في قليل أو كثير..
سبحان الله يا ابنتي انه النصيب..
وخلال أيام بسيطة احتل خاتمه بنصري، وامتلأت أحداقي بصورته وتربع على عرشه فلبي بكل زواياه وأركانه.. انه حبيب العمر.. عبدالله..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

$$$$$$$$$$$$$$ هاربة من الماضي $$$$$$$$$$$$$$$

في الخامسة من عمري أو ربما في السادسة لا أكثر.. فقدت أمي لم أفقدها بالموت، بل فقدتها بالطلاق، وما زالت الذكرى الموجعة لا تبارح مخيلتي، وأنا أبكي أمام حجرتها الخالية.. أبكي فقدانها، وأبكي شوقا لها والتماسا لحنانها.. أبكي بقوة وحرارة وأنا اسأل.. أين أمي؟ ولا تجد صرخاتي صدى من المحيطين بي سوى محاولة اشغالي بأي عمل لأنسى.. ولا أنسى.. وهل هناك من يستطيع نسيان حياته.. نبع الحنان وركن الأمان والاحتماء من غدر الزمان..
كل ذلك تلاشى بالنسبة لي، أصبحت فجأة بلا حدود ولا أقنعة ولا حوائط.. لا شيء يحدني ولا شيء يسترني.. ضياع شامل يكتنف عالمي، حتى غدوت كنبتة صغيرة جافة وسط صحراء مترامية الأطراف تحيط بها العواصف من كل جانب..
قاسيت الأمرّين؛ من حرماني من حنان أمي ووجودي وسط عائلة ى تعرف معنى الرحمة والشفقة، ويحاولون الانتقام من أمي في شخصي الضعيف.. طفلة صغيرة بلا سند ولا حماية.. ذقت مرارة الظلم وعذاب المحاباة ودموع الأيتام.. نشأت وترعرعت وسط أجواء مثقلة بأنفاس الغيرة والحقد.. مشحونة بالقلق والتوتر وهبوط متواتر في مشاعري وإحساسي قادني إلى البرود.. والبرود التام تجاه كل شيء وأي شيء.. لا شيء يثيرني.. لا شيء يحركني.. مما أدى بي إلى الإصابة بمرض غريب، وأنا في مرحلة المراهقة..
إغماء نادر، حار الأطباء في تفسيره.. كنت أشعر بضيق شديد في التنفس، وكأن أيدي قوية تغتالني ثم أغيب عن الوعي غير عابئة بشيء..
لم يستطيع العديد من الأطباء الذين عرض عليهم أبي حالتي أن يدلوا بتفسير معين أو مرض محدد، ولم يكن لديهم علاج لحالتي سوى الأدوية المقوية والفيتامينات..
حتى سمعت ذات يوم حديثا بين أبي وعمتي.. كانت عمتي تقول له بإصرار:
ــ صدقني يا أخي.. علاج البنت بزواجها.. أن حصة مكتملة الصحة والعافية ولا ينقصها سوى الزواج..
رد عليها أبي بارتياح واضح
ــ إنها ما زالت في السادسة عشر.. ثم من هو الزوج المنشود.. فحتى الآن لم يتقدم لها أي رجل للزواج..
أجابت بثقة:
ــ الزوج موجود.. أنه أبني عمر..
جاءني صوت أبي ضعيفا متهافتا وهو يقول:
ــ ولكن.. إن عمر لا وظيفة له ثم إنه قد خرج من السجن حديثا و.. قاطعته بصوتها الأجش:
ــ لن نجد أفضل منه زوجا لها، يكفي أن والدتها..
ولم استمع لبقية كلماتها، فقد قبت عن الوعي.. عاودتني حالة الاغماء العجيبة في تلك اللحظة، وكأنما لتحميني مما يؤذيني سماعه ويعذبني معرفته..
وأفقت لنفسي هذه المرة وأنا مخطوبة لعمر.. أبن عمتي الشاب السكير العربيد، صاحب السوابق الذي لم يدع خطيئة على وجه الأرض دون أن يرتكبها..
حاولت إبلاغ أبي برفضي، لكن محاولاتي ضاعت وسط زخم الاستعدادات للزواج المرتقب.
أحسست بأنني ضعيفة هشة دون أسلحة ولا حماية من أي نوع.. تلفت حولي أبحث عن صدر حنون، يخفيني عن التطلع لمصير أرهب مجرد تصوره.. تلفت أبحث عن كلمة حنان ضاعت في أبخرة الحقد والغيرة..
بحثت عن دموع تجاوب دموعي.. عن جدار اتكىء عليه خلال معركتي مع الحياة..
لكن الزمان خذلني.. فواجهت حياتي المقبلة وحيدة إلا من حزني.. خائفة إلا من أمان مزيف يطرق أبوابي..
تزوجته وأمل بعيد يداعب مخيلتي، وحلم ما زال رغم كل شيء يحتل مساحات شاسعة من تفكيري.. فربما يتغير عمر بعد الزواج، وربما يسمح لي بزيارة أمي ورؤيتها و...و..
حتى فوجئت به صباح ليلة الزفاف يقول لي بنبرة آمرة:
ــ أنسي ان لك أماً على وجه الأرض.. أفهمتي؟
سألته وكل جزء من جسدي يتداعى بصمت:
ــ ولماذا؟
وبقى سؤالي معلقا دون إجابة.. حائرا يطرق رأسي آلاف المرات بعذاب يفوق احتمال البشر..
ماذا فعلت أمي ليقف منها الجميع هذا الموقف البشع.. ولأول مرة اسأل نفسي.. لماذا طلقها أبي؟ ولماذا يزج بي أبي في هذا الزواج غير المتكافىء؟.. إذ لم تكن فعلة أمي فوق قدرة الناس وطاقاتهم على التسامح والغفران..
لم يكن تساؤلي هو بداية عذابي، بل بدأ زوجي معي سلسة أخرى من العذاب، كان يبالغ في إيلامي وتجريحي.. وحينما أتضجر أو أشكو يصب على سيلاً من الإهانات تفوق كل حد وتعلو على أي صبر..
لكنني ابتلع دموعي في صمت، وأتعذب في صمت، وحيت قررت يوما أن أشكو لعمتي، فاجأتني بقولها:
ــ مثلك لا يشكو.. مثلك يصبر ويتحمل..
ثم أخذت تدعو على أمي وتكيل لها الشتائم.. سألتها برفق:
ــ عمتي.. لماذا طلق أبي أمي؟
أشاحت بوجهها وهي تقول:
ــ أنت صغيرة لا شأن لك بهذه الأمور..
وانسابت دموعي لتغرق وجهي، ولتبلل ثيابي.. ولماذا الآن فقط أصبحت صغيرة يا عمتي.. لماذا لم تدركي صغر سني قبل أن تقحميني في دوامة التفكير والعذاب بزواجي من ابنك؟
سامحك الله يا عمتي..
ولم اسألها عن شيء بعد ذلك ولا لمحت لها بشيء.. اكتفيت بملامح اليأس المرتسمة على وجهي، والحزن الناطق في العيون، وحالات الاغماء التي تعاودني بين الفينة والأخرى، أكثر مما كانت عليه قبل زواجي..
وبعد شهر فقط من زواجي دخل زوجي السجن في قضية مخدرات، وعدت ذليلة إلى بيت أبي الذي كرهته من أعماقي، كما لم أكره شيئا في حياتي..
وبدأت الهمسات تدور حولي وتعالت الهمسات إلى أصوات حادة تصرخ في أذني.. وحيدة وجميلة وزوجها غائب في السجن، وماضي أمها لا يشفع لها.. يجب تشديد الرقابة.. لا خروج إلا بإذن ولا مكالمة إلا بإستئذان.. وحتى الكلام ممنوع..
دارت الدنيا من حولي وعاودني الإحساس الشديد بالضيق في صدري، وازدادت عدد مرات غيابي عن الوعي، حتى جاوزت الحد المعقول.. ادخلت عندها المستشفى، وسلسلة طويلة من الفحوصات والتحاليل، لينتهي بي الأمر عند الطبيب النفسي.. أذهلني مرآه للمرة الأولى.. كان شابا وسيما لم تقع عيناي على شبيه له من قبل وحنونا إلى درجة لا تصدق..
سألني برقة:
ــ جميلة وحزينة.. لماذا..؟
نبض قلبي بعنف، ووجدت نفسي أحكي له كل شيء عن مأساتي ومع كل كلمة دمعة.. ومع كل دمعة آهة.. وقطرة جديدة تزرع في قلبي بذرة حب..
تجاوب قلبانا في انسجام غريب غير مألوف.. فوجئت نفسي أطلب الطلاق من زوجي، يؤازرني أبي ومن وراءه الطبيب النفسي دون أن يعلم أحد عن أمري شيئا..
وما أن حصلت على الطلاق، حتى هربت معه.. مع الطبيب.. وتزوجنا بعيدا عن الأعين.. وبعيدا عن كل رابط تربطني بذلك الماضي الكئيب الذي أحاول نسيانه..
ووجدت السعادة معه.. ولم أحاول البحث عن أمي أو نبش ماضيها الذي لا أعرفه.. يكفيني ما أسمعه من الناس وكلامهم المكرر "الماضي يعيد نفسه والبنت ترث أمها"
وأصم آذاني عن كل شيء إلا سعادتي مع زوجي..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

@@@@@@@@@ لن يعيش لك طفل @@@@@@@@@


ضباب ودموع وأصوات كلاب تنبح بقوة وأنا أركض وأركض.. وأركض ثم اسقط في هاوية بلا قاع..
حلم يطارده حلم ثم حلم.. وأصحو بفزع وعيناي مبللتان بالدموع.. ثم ماذا.. وأسئلة يتيمة بلا جواب..
سألت أمي وشيء ما يتفت داخل صدري ربما هي بقايا أضلعي:
ــ أمي.. لمَ لا أنساها؟
نظرت لي أمي بغتة ثم غشت عينيها سحابة دمع لأجهش ببكاء مرير وأنا أهمس بصوت متقطع:
ــ قد حلمت البارحة بأنني أرضعها فتدفق الحليب من صدري مدرارا..
أمي هل سأنساها؟.. وكيف؟
جاءني صوت أمي من بعيد محطماً وقاسياً.. لا احد ينسى ضناه..
ابدا.. ابدا يا أمي.. ولو بعد مئة عام.. أليس هناك من أمل ولو ضئيل بأن يغادرني هذا الألم الممض الموجع الذي يضرب جذوره في أعماقي متفتقا عن عذاب أشد ألما وضراوة حتى وكأنني أشعر بروحي وهي تتسلل رويدا رويدا خارج نفسي.. ألن تغادرني حرقة النفس واكتواء الضلوع، وقلبي الذي ينزف دما.. والمرارة العالقة بفمي.. منذ غادرتني حبيبتي الوحيدة..
ألم لا يوصف ولا يطاق فكيف تشعر أية أم حين تحلم بأن وحيدتها في احضانها تمتص الحب والحنان مع الحليب ثم تصحو على واقع بشع بفقدانها, ولا تضم بين يديها سوى السراب, تملأ حدقتي عيني بهيئتها الحبيبة.. عينان واسعتان تفيضان مرحا وحيوية وبراءة تلون الأحداق، وشعر خفيف متطاير يعلو هامتها..
هل كانت تشبهني أم تشبهه..؟ ألا يزال يحيا في أعماقي كما كان سابقا..؟ كلا..
صرخة رفض تدوي بقوة.. فلا شيء كالسابق.. والماضي لا يعود..
قصة حب سريعة انتهت إلى زواج.. أحببته بعد الزواج بكل طاقتي على الحب.. بدأ زواجنا بسعادة عاصفة ليس لها مثيل..
لكن الأيام تمر سراعا والأشهر تتوالى والسؤال المرتسم في الأعين الحائرة التي ترمقنا ازداد حدة ونزل إلى أرض الواقع وواجهتها به الوجوه من حولنا.. متى وأين الحمل؟.. أين الطفل المنتظر؟..
زوجي واجه الأمر بضحكه كبيرة أودعها قلقه وهو يقول بلا مبالاه:
ــ كل شيء مرهون بوقته.. لسنا متعجلين على شيء..
لكن السؤال بقى هاجسا في أعماقي.. لم يمر من خلالي خارجا كما حدث مع زوجي، بل استقر في نفسي وانعكس صداه اسئلة بلا جواب..
عرضت نفسي سرا على طبيبة ما لبثت أن طمأنتني بأن كل شيء على ما يرام..
بيد أنني اطمئن بل ازداد أوراد المعركة في أعماقي لتتراجع سعادتي التي بنيتها بيدي وتبقى نفسي معلقة بطفل هو شبح سعادتي المفقود..
لمس زوجي ما طرأ على من تغير.. كان سؤالا.. انفجرت بعده باكية.. ناقشته.. أوضحت له كل شيء, ثم طلبت منه أن يكشف بدوره لدى طبيب..
كانت تعاستي مضاعفة حين اكتشفت أن زوجي أيضاً لا مانع لديه من الإنجاب وأن كل شيء بيد الله.. ونعم بالله..
لكن أهل زوجي.. وأمي.. وشقيقاتي وصديقاتي كيف يقتنعن بما حاولت أن أقنع نفسي به.. انهن لا يفهمن سوى شيء واحد.. أن تحمل المرأة بعد زواجها وإلا اتهمت بأنها عاقر.. ولا خيار آخر..
تلاشت سعادتي كضباب سحقته الشمس وأنا أحاول البحث عن حل وسط الدوامة التي وجدت نفسي فيها.
بدأت رحلتي بين الأطباء والمستشفيات العامة والخاصة والشيوخ ومحترفي طب الأعشاب والشعوذة.. وما أن يطرق أذني اسم جديد لهؤلاء حتى أعدو اليه غير عابئة بأحد..
أخيرا دلوني عليها.. مداوية أو طبيبة أعشاب أو مشعوذة لا أدري.. كل ما قيل لي عنها أنها بارعة في مداواة العقم وكل من تزورها تحمل.. طال الزمان أو قصر..
أسرعت ولهفتي تسبقني وضحكات زوجي تطاردني..
نظرت إلى بتركيز ثم همست بصوت متداعٍ..
ــ لن يعيش لك طفل..
قاطعتها بذهول:
ــ لا أطفال لي!!
تجعد وجهها بطريقة مخيفة وهي تهمس:
ــ أعرف.. ولكن لن يعيش لك طفل..
امتلأت عيناي بالدموع وأنا أقول:
ــ والحمل؟
أدارت ظهرها قائلة:
ــ الأفضل ألا تحملي..
غادرتها وركبتاي تعجزان عن حملي.. يأس رهيب دب في أوصالي فأعجزني حتى المشي بسهولة.. سألني زوجي.. وسخرية كبرى تملأ وجهه.. أشحت بوجهي وأنا أشعر بدوار شديد وغثيان يملأ جوفي..
المفاجأة كانت أنني حامل.. وفي الشهر الثاني..
خررت ساجدة لربي وأنا أبكي من قرط السعادة.. امتلأ بيتي بالمهنئات.. أهداني زوجي عقدا ماسيا رائعا، وأهديته سعادة كان قد نسى طعمها منذ زمن.. عادت حياتنا إلى استقرارها وأضواء من السعادة الخاطفة تنيرها بين وقت وآخر..
في خضم هذه السعادة نسيت تلك المداوية العجوز وتلاشت كل كلمة نطقت بها حتى لم أعد اذكرها بتاتا.
واطلت إلى الدنيا " إيمان ".. طفلتي الحلوة البريئة.. زغردت حياتنا فرحا وحبورا..
امتلأت نفسي بالغبطة والرضا بشكل لم أعرفه, وخشيت أن أحسد نفسي عليه..
ابتعت لها أثوابا رائعة والعابا نادرة من كل بلاد الدنيا.. أحببتها حبا آسر لم أحبه في حياتي لبشر..
مضيت ارضعها من صدري حليبا وحنانا وأملا.. وفجأة.. وفي لحظة خاطفة وأنا أتسوق برفقتها في السوق الكبير.. فقدتها.. نعم هكذا فجأة.. كانت تبلغ عاما ونيفا من عمرها وتلهو بين أقدامي.. التفت فلم اجدها.. بحثت عنها في أرجاء المعرض الكبير يرافقني البائع فلم نجد لها أثرا.. صرخت هلعا وأنا أركض كالمدوغة في أنحاء السوق والكل يركض ورائي ككلاب مسعورة.. لكن ابنتي اختفت وكأن الأرض انشقت وابتلعتها.. لا أثر.. لا شيء.. سوى فردة واحدة من حذائها الوردي الصغير وجدته حيث كنت في المعرض الكبير..
صرخت.. بكيت.. مزقت شعري بجنون ثم غبت عن الوعي..
وأفقت على واقع مرعب.. مخيف.. مقفر كالقبر.. ابنتي اختفت وذهبت بدون عودة.. نداءات الإعلام لم تجد، وبحث الشرطة والأهل والمعارف لم يسفر عن نتيجة.. ونفسي تتصدع وإحساس مخيف بقرب نهايتي يدنو مني حتى يوشك على خنقي واصرخ.. واصرخ..
عشت على المهدئات, أصحو بين الفترة والأخرى في ذهول وضياع وألم لا يوصف.. ثم ضياع مرة أخرى..
وفي قمة أزمتي وتمزقي وانهياري طلقني زوجي.. بعد أن حمّلني مسئولية ضياع ابنتي..
تفاقمت أزمتي حتى وصلت حدودها القصوى, فرقدت في المستشفى طريحة الانهيار العصبي شهورا طويلة لأخرج برفقة أمي خائرة القوى.. مضعضعة الحواس.. ضعيفة.. منهارة.. لكن الأمل لا يزال يتشبث بأعماقي رافضا الموت..
قلت لأمي ونحن في طريقنا إلى البيت:
ألم تعد يا أمي إلى البيت؟..
أجابتني أمي بعاصفة الدموع.. لكن دموعي قد جفت, فاكتفيت بسعال حاد كاد يمزق صدري..
فوجئت عندما لم أجد سوى ثيابي.. لم تحمل لي أمي ثياب الصغيرة وألعابها.. تريدني أن أنسى.. وكيف أنسى يا أمي.. والحليب يملأ صدري.. ويفيض به..
حينما تذكرت.. بريقا ساطعا اضاء ذاكرتي بوهج لا مثيل له.. تلك المرأة العجوز.. من تنبأت لي يوما بأن اطفالي لن يعيشوا.. ترى هل إيمان قد ماتت.. هل قتلها أحد؟
أسرعت إليها أجر نفسي جرا.. قلت لها بصوت مثقل بالبكاء:
ــ سيدتي.. هل إيمان ماتت أم لا تزال على قيد الحياة؟
نظرت إلي بتركيز شديد ثم هتفت:
ــ من أنت؟
اجبتها بصوت يائس:
ــ أنا من لن يعيش لها طفل.. أتذكريني؟
رمشت بعينيها فجأة ثم همست بنفس الصوت المميز:
ــ لقد كبرت كثيرا يا ابنتي وتغيرت كثيرا.. هل فقدت طفلا؟
هنا لم أتمالك نفسي أكثر وأجهشت بالبكاء في حرقة ومرارة.. مضى وقت طويل والحجرة غارقة في الصمت لا يقطعه سوى بكائي المر..
سألتها ودموعي لا تزال تهطل بغزارة:
ــ سأدفع لك كل ما تريدين.. فقط اخبريني هل ماتت إيمان أم لا تزال على قيد الحياة؟
أشاحت بوجهها قائلة:
ــ أخبرتك سابقا.. لن يعيش لك طفل يا ابنتي..
ــ وإيمان؟
ــ لن يعيش لك طفل..
وبكاء ودموع وضباب كثيف بلا انقطاع..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

&&&&&&&&&&&&&& أطياف من الأحلام &&&&&&&&&&&&&&&


اصطف إلى جوارهن بوجل.. ترى ماذا سيحدث لي في اللحظة الأتية:
أفكاري تترى.. هل سأتشنج أم سيغمى علي.. أم سأصرخ بكل قواي دونما يستطيع كائن ما ان يحد من صراخي؟
عرق ودموع وأفكار تصعب السيطرة عليها.. حجابي الأسود ملتصق بظهري وعنقي بسيل من العرق.. ورائحة حناء قديمة تفوح من شعري.. أشعر بها تقتحم أنفي بقوة وكأنها قد وضعت للتو.. ضربات قلبي تتسارع.. تنفسي يزداد صعوبة.. متى يحضر الشيخ؟
اخترقني صوت بالجوار: ممَ تشكين؟
السؤال يغمد خنجرا في أحشائي ويتقلقل ببطء حيث بركان الألم والأنين..
ماذا أشكو؟.. بل ماذا لا أشكو؟ ماذا بقى في جسدي لا أشكو منه؟ قدماي المضعضعتان.. يداي المتخشبتانث.. ظهري وآلام لا توصف.. ذلك الورم الصغير في صدري.. عيناي.. عنقي.. كتفاي.. وأخيرا شعري المتساقط.. ما الذي بدأ أولا وبماذا انهيت؟ هل كان شعري الذي بدأت خطوطه واضحة جلية للعيان.. خصلاتي أصبحت تتسرب من بين اصابعي كأوراق فقدت رابطها.. على المشط خصلات وعلى الوسادة أخريات وفي ملابسي تجتمع العشرات..
سألني الطبيب وقد أذهله ما رأى: منذ متى؟
ــ لا اتذكر بالضبط.. بيد أن هناك تاريخا لا ينسى.. هو يوم نجاحي في الثانوية العامة بتفوق.. واحتلالي للمركز الأول على مستوى المنطقة.. أعقبه بأيام لا أتذكر عددها تساقط شعري..
هل هي السعادة تعقبها تعاسة؟ صمت الطبيب وبقي سؤالي معلقا بلا إجابة وأدوية لا حصر لها ترافقني حتى البيت"مينو كسديل".."نيزورال" للقشرة"لوسيون للسعر" و.. و..
مرت أيام كثيرة قبل أن أتيقن بعدم جدوى تلك الأدوية.. شيء طبيعي أن اتجه بعد ذلك للأعشاب.. زيت الجرجير.. خلطة الزيوت السبعة.. زيت الحبة السوداء.. السدر.. الحناء!! أخيرا عرفت الحناء طريقها إلى شعري وقد رفضتها مرارا.. وأنفت حتى من وضعها على يدي مما كان موضع الخلافات مع أمي دائما.. لكنها أصبحت تملأ شعري وتسيل على عنقي ووجهي وتلطخ يدي وثيابي..
ألمح التهكم والسخرية يلونان وجوه من حولي.. ولم تفتني تلك الضحكات المكتومة من أمي وأخوتي..
وشعري لا يفتأ يتساقط.. ومعه يتساقط آخر أمل لي في اعادته من جديد.. بدأ اليأس يتسرب إلى نفسي رويدا رويدا وأنا أرى تاج جمالي وقد استحال إلى أرض جرداء تتخللها بضع شعيرات..
حانت مني التفاتة إلى المرآة لأرى ذلك الشيء استوطن صدري ولم أشعر به..
كتله صغيرة تبرز للأعلى بدون أية آلام.. تراكمت الأحزان داخلي وأنا أرى دموع أمي.. فلم أجد حيالها سوى البكاء.. وما يجدي البكاء!!
فحوص مخبرية.. تحاليل.. اشعات مختلفة.. اشعة اكس.. الأشعة فوق الصوتية (التراساوند) وغيرها الكثير.. ثم عملية عاجلة لاستئصال الورم.. وبدون أن أدرك ماذا يحدث لي بالضبط.. وما هية هذا الورم..؟
سقطت البقية الباقية من شعري بدون أسف.. وارتديت الشعر المستعار لأول مرة في حياتي.. وأنا أشعر وكأنني أحمل صندوقا ثقيلا على رأسي.. والأحزان داخلي تزداد وتتعمق بغير نهاية..
ــ خرجت من المستشفى لا أكاد تحملني قدماي.. بصعوبة كنت أسير وكأن قدمي مشدودة إلى الأرض بقوة لا تقاوم.. ولا أرى من غدر البشر سوى عيني أمي اليائستين ووجه أبي المتغضن ودموع اخوتي ولا شيء آخر..
ثم أفقت ذات يوم على يدي وقد غدت كتلة من الخشب بلا أي حراك.. وكأنها قد خلت من الدماء والأعصاب.. ثم تلتها يدي الأخرى وان لم تكن بنفس الشدة.. حمدت الله من أعماقي أن بقيت لي بعض القوة في يدي لأتمكن من القيام ببعض شئوني..
لم يجد العلاج الطبيعي ولا أي علاج آخر في عودة يدي أو حتى قدمي لوضعهما السابق..
غرقت في الدوامة من جديد وظهري يئن تحت وطأة الآلام ثم كتفاي.. الطامة الكبرى حينما تلونت عيناي باللون الأحمر القاني بدون سبب..
عجز الأطباء عن ايجاد دواء لي ولا حتى تشخيص لدائي الغريب.. تعددت الأقوال والإفادات والتقارير.. ولا شيء..
وقف الطب بعلمائه ومستشفياته وبأجهزته المتقدمة وكوادره الطبية المؤهلة قزما أمام حالتي لا يستطيع حيالها شيئا..
انتهت على صوت رخيم يقرأ بإيمان " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " أشعر بالآية الكريمة تخترق أعماقي.. تزلزلني.. تتفتح الجراح على الصديد..
" وإذا مرضت فهو يشفين " الخدر يسري في أوصالي المرتجفة..
تذوب آلامي كأنها لم تكن..
النوم يداعب أجفاني بعد طول غياب..
أشعر بأنني أتلاشى.. وتغدو آلامي كأطياف من الأحلام..
 

غفران

عضو متميز
12 أبريل 2003
568
2
0

$$$$$$$$$$$$$$$ أمي.. لا تسأليني عن السبب $$$$$$$$$$$$$$$


اخترقتني أمي بعينيها قبل أن تسألني:
ــ عفاف ألن تعودي لفهد.. ألا تحبينه؟
امتلأت نفسي بالشهقات الباكية وعواصف عاتية تقتلعني من الداخل.. فهد.. حبيب الماضي والحاضر.. من أحببته أكثر من نفسي وازداد حبي له أكثر فأكثر بعد زواجي منه.. تزوجنا صغارا وكنا لا نزال طلابا في الجامعة.. لكنني تركت الدراسة منذ حملت وأتم فهد دراسته الجامعية ليغدو مهندساً مرموقاً.. اكتملت سعادتنا بطفلتنا الجميلة التي توجت رباط حبنا.. وفي حملي التالي جاءني فهد ليزف بشرى بأن الوزارة قد رشحته للانتداب لفترة بسيطة، وسيعود عليه هذا الانتداب بمال وفير بخلاف العائد المعنوي له..
فرحت لفرحته رغم حزني الداخلي لفراقي عنه.. همس بأذني قبل رحيله..
ــ أرجو ألا تلدي قبل عودتي.. أريده صبياً حلوا مثلك.. مرت الأيام سريعاً ليعود لي وقد أنجبت طفلة أخرى.. لمحت الحزن في عينيه.. والوجوم بادياً في ملامحه, قلت له باستسلام:
ــ هذه مشيئة الله ولا اعتراض لنا على مشيئته، ثم أن البنت أفضل من الأولاد.. هز رأسه موافقاً لكلامي.. انتظرت كثيراً ليذوب حزنه وتعود لعينيه تلك النظرة العاشقة وتعود لروحه فرحته وانطلاقه الآسر.. لكن العينين بقيتا على جمودهما والحزن لا يبارح ذلك الوجم الوسيم والروح ميتة مطفأة وكأنها تشيع عزيزاً قد فارق الحياة.. صارحت أمي ولأول مرة منذ زواجنا بما طرأ على زوجي من تغير بعد إنجابي الطفلة الثانية حتى علاقتنا الزوجية لم تعد كسابق عهدها..
نصحتني أمي بالحمل مجدداً, فربما يأتي الولد ويأتي معه الفرح الغائب وبهجة الأيام الحلوة التي مضت بغير إياب..
وفعلاً لم تمض أشهر حتى بدأت رحلة الحمل من جديد.. استقبل زوجي الخبر ببرود عجيب.. لم يفرح ولم يتبرم.. أرجعت هذا الأمر لخشيته من أن يكون الجنين القادم بنتاً ثالثة.. دعوت ربي كثيراً وأنا أبكي بأن يرزقني الله بالولد الذي تقر به عينا زوجي.. صليت كثيراً.. وبكيت كثيراً.. ودعوت كثيراً وكثيراً وشاء الله أن أنجب بنتاً ثالثة لحكمة أجهلها وأرادها الله عز وجل..
في اليوم الثالث من الولادة انتابني شعور غريب بأنني لا أريد أن أعيش، وأنني أكره كل شيء حتى زوجي وبناتي.. انزوت داخل نفسي منكفئة على ذاتي راغبة عن الدنيا بأسرها.. كان زوجي في عالم آخر.. أمي حاولت المستحيل لانتشالي من الحالة التي ترديت إليها.. ومع الأطباء.. والأقراص المهدئة.. عدت إلى واقعي رويداً رويداً..
بناتي في حاجة لي.. زوجي كما كان لم يتغير منذ سنوات مضت لم يزداد حزنا وتعاسة كما توقعت وخشيت.. لم ينتحر ولم يرض.. هو بحزنه وبدموعه اليائسة..
هنا أدركت لتوي الحقيقة التي غابت عني طويلاً.. أن زوجي لم يكن حزينا من اجل إنجاب البنات.. انه حزن آخر.. خزن مخيف تعرفه كل زوجة مخدوعة مرت بظروفي.. أدركت فجأة بأن حزنه وتغيره المفاجىء كان بعد عودته مباشرة من تلك البعثة إلى تلك المدينة..
واجهته.. صارحته.. ضيقت عليه الخناق.. أفهمته بأنني اعرف كل شيء وأفضل أن يكون هو البادىء بالاعتراف.. ويا لعذابي لقد اعترف.. على مدى ساعتين تحملت خلالها ما لا يطيقه بشر مدة اعترافه.. تقلبت على فراش من الأشواك دون أن أجرؤ على نطق الآه.. قال لي انه تعرف عليها في تلك المدينة.. امرأة مطلقة ولا يدري كيف تسللت إلى أعماقه وتربعت على عرش قلبه.. لقد مضى كالمنوم وتزوجها.. وعاشا بسعادة طوال مدة وجوده هناك.. ثم عاد على أمل مصارحتي ثم العودة لها لنعيش معاً في نفس المدينة.. لكن القدر كان أسرع.. فأبلغه أهلها بأنها قد ماتت أثر عملية جراحية بسيطة وبسبب خطأ طبي لم تخرج منه مرة أخرى إلى حيز الوجود.. فقدها وأنا مازلت في فترة النقاهة في المستشفى وصاحبه الألم حتى اليوم.. لم ينس أبداً لحظات السعادة القصيرة التي عاشها إلى جوارها.. الحب المشتعل اللافح.. حرارة المشاعر والأحاسيس.. كلمات.. نظرات.. ابتسامات كلها عاشت في وجدانه وان ماتت صاحبتها.. حكى لي والدموع في عينيه بأنه يتمنى لو إنها لم تمت وعاشت العمر كله إلى جواره.. طفح الأسى في نفسي فنهضت واقفة..
سألني إلى أين؟.. قلت له وأنا ابكي..
ــ لقد نسيت أنني زوجتك وحبيبتك قبل ذلك.. ومضيت تحكي لي قصة حبك وكأنك تحكيها لصديق.. آسفة فلست أتحمل كل هذا.. لحق بي.. خاطبني قائلاً:
أنت صديقتي قبل أن تكوني زوجتي.. وان مجرد كلامي معك قد أزال كثيراً من أحزاني القديمة وحررني منها..
الآن أستطيع أن أقول لكِ بأنني احبك..
دفعته برفق وأنا اطلب مهلة للتفكير والتفكير, وكان قراري الذي لا رجعة فيه.. فالذي يخون مرة سيخون مرات ومرات, فلا سيطرة له على مشاعره.. وزهراتي الثلاث لن يضعن.. لكنني لن أعود إليه.. نظرت في عين أمي مباشرة وكأنني لا أخشى الإجابة.. قات بثبات احسد عليه..
كنت أحبه لكنني اليوم أحب نفسي وحريتي وهدوء أعصابي أكثر منه..
أمي لا تسأليني عن السبب؟