أعزائي .. تحية طيبة ... وبعد
أرجو أن لا يكون طول الموضوع عذراً لعدم قرأته, فالموضوع بحق يستحق كل ما ستقضيه من وقتك لقرأته ...
الموضوع للكاتبة: د. فاتنة أمين شاكر...
ما هو سر هؤلاء الذين يسيرون دائماً وابتسامة رضى تعلو محياهم, ينظرون للحياة والأحياء نظرة تفاؤل وأمل بالرغم من كل مصاعب الحياة ومشكلاتها؟ إن السر يكمن في داخل هؤلاء. إن "داخلياتهم" قد وصلت لدرجة من التوازن والاتزان بحيث يسودهم الشعور بالارتياح والرضى, وتنبعث منهم النظرة الواعية والرؤية الواضحة. ويكون لسان حالهم هنا: إننا بخير .. أنتم أيضاً بخير! إننا نشعر بالأمان في الداخل فنراكم أهلاً له, ونشعر بالثقة في أنفسنا فنراكم أهلاً لها.
لا شك إن لهذا الكلام وقعاً حلواً على الأذان, وله رنة في المنطق في ساحة الفكر, ولكنه يبدو أيضاً كبيراً ونظرياً, حيث يصعب تطبيقه. إذ كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من آثار الماضي وتجاربه؟ كيف يحصر كل سلبياته التي قد تكون حفرتها الأيام في نفسه وفكره وحياته كي يقتلعها؟ ثم كيف يزرع بدلاً عنها شجيرات جديدة من الإيجابية والمحبة والتفاؤل والأمل؟ إن التساؤل صعب, وقد تأخذ محاولة الإجابة عليه أياماً وشهوراً من عمر الإنسان حتى يدرك حقيقة الآثار التي يكون حملها معه في حاضره من مراحل حياته الماضية.
حاول "فرويد" علاج هذه المشكلة عن طريق التحليل النفسي من أجل مساعدة الإنسان على استرجاع تجارب طفولته التي تكون قد اختزنت في العقل الباطن واحتجبت عن مواطن الذاكرة والإدراك.
ونجح "فرويد" في علاج حالات من فقدان البصر والسمع والنطق والذاكرة, التي لم يولد بها أصحابها وإنما نجمت عن صدمات نفسية.
ولكن فعالية العلاج اقتصرت على فئات معدودة نظراً للفترة الزمنية الطويلة التي يتطلبها العلاج, بالإضافة إلى ضعف بعض الافتراضات النظرية التي ارتكز عليها منهج العلاج.
وهكذا يبقى منا المئات من الأفراد ممن يعانون من العمى والحرس والصمم وفقدان الذاكرة, ليس عضوياً وإنما معنوياً ووجدانياً ... هؤلاء كيف يكون علاجهم؟ كيف نطلب من الإنسان أن يحب وأن يغدق بالحنان بينما كانت طفولته محرومة منها؟ كيف نطلب من الإنسان أن يثق بغيره وذاكرته ما زالت تدير أمام عينيه شريط من خيانة أحب الناس إليه؟ كيف نطلب من الإنسان أن يؤمن بالصداقة ومشاعره ما زالت تتوجع من تنكر أعز الأصدقاء في أحلك الأوقات؟
هناك العديد من التساؤلات لأن هناك العديد من المآسي التي خلفت وراءها عشرات من النفوس الخائفة الحيرى.
نفوس تريد أن تتطلع, ولاكن كيف؟! كيف تثق لتتطلع! نفوس تحن إلى التلاحم, وتحن إلى الارتباط, ولكن كيف؟! كيف تثق لتمنح حنينها فرصة الانطلاق؟
إن تجارب الحياة الإنسانية حافلة بالبؤس والشقاء, ولكنها حافلة أيضاً بهؤلاء الذين استطاعوا أن يرفضوا البؤس ويتحدوا الشقاء. إن هؤلاء يرفضون النظر إلى أنفسهم كمجرد نتاج تفاعل ظروف الحياة وتلاعبها به. إنهم يرون أنفسهم إرادة بإمكانها أن تستوعب وتتفهم وتتغلب وتبني من جديد. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة من التوازن والاتزان كي يشعر بأنه على ما يرام وبخير؟ يتحقق ذلك عندما يواجه الإنسان حقيقة بسيطة ومهمة: وهي أنه هو المسؤول عن سلوكه وتعامله في حاضرة ومستقبله بصرف النظر عما يكون قد حدث له في الماضي.
إن تقبل الإنسان لهذه الحقيقة يساعده على تبديل الجوانب المعتمة في حياته بأخرى تكون أكثر إضاءة وإشراقة, وتنمي فيه القدرة على الضبط والتوجيه الذاتي, وبالتالي تمنحه فرصة اكتشاف حقيقة أخرى: وهي حقيقة حرية الاختيار. والمقصود بالاختيار هنا ليس اختيار الأشياء بقدر ما هو اختيار القرارات والاتجاهات والمواقف.
هكذا تشير لنا محاولات العلاج النفسي ـــ الاجتماعي الحديث, والتي تحول مساعدة الإنسان على تصفية نظرته لحاضرة من ترسبات الماضي, شريطة أن يتوالى هو الدور الرئيسي في العلاج, وأن يكون في مكتمل وعيه. وقد نشر الطبيب "توماس هاريس" حصيلة هذه التجارب في كتاب أسماه "أنا بخير .. أنتَ بخير".
إن حصيلة الحالات العديدة التي درسها هذا الطبيب تفيد بأن الإنسان العصري يتوجع بسبب اختفاء النظرة المسؤولة من مرئياته وبالتالي ضعف فيه الإحساس بالرغبة في مواجهة الصعاب, ومن تم ضعف الإحساس بالقدرة على إزالتها أو تحويل مجراها من حياته. إن مثل هذا الشعور بالعجز لهو من دواعي وهن النفس الإنسانية المعاصرة. إنها تفتقد إلى الإحساس بالإرادة. والإحساس بالإرادة يتولد عن وجود الدافع في نفس الإنسان ويبقى عليه قوياً إلى الإيمان بأهمية العمل المخلص وبجدوى الخير, وبأن كل في سلبية لا يمكن أن تضيع هباء. هنا فقط يتمكن الإنسان من أن يصبح حراً, وأن يتحرر من قيود الماضي التي تكون قد كلبته بمرارتها وقسوتها.
رائع ذلك الكتاب الذي استطاع أن يوجز كل هذه الأسطر في العبارة التالية:
"الحرية تعني حرية الإرادة .. الإرادة لا تستطيع أن تعمل إلا حين يكون هناك دافع .. الدافع ينتج عن الاعتقاد بأنه يمكن فعل شيء ما .. "
تحياتي .. ضياء
أرجو أن لا يكون طول الموضوع عذراً لعدم قرأته, فالموضوع بحق يستحق كل ما ستقضيه من وقتك لقرأته ...
الموضوع للكاتبة: د. فاتنة أمين شاكر...
ما هو سر هؤلاء الذين يسيرون دائماً وابتسامة رضى تعلو محياهم, ينظرون للحياة والأحياء نظرة تفاؤل وأمل بالرغم من كل مصاعب الحياة ومشكلاتها؟ إن السر يكمن في داخل هؤلاء. إن "داخلياتهم" قد وصلت لدرجة من التوازن والاتزان بحيث يسودهم الشعور بالارتياح والرضى, وتنبعث منهم النظرة الواعية والرؤية الواضحة. ويكون لسان حالهم هنا: إننا بخير .. أنتم أيضاً بخير! إننا نشعر بالأمان في الداخل فنراكم أهلاً له, ونشعر بالثقة في أنفسنا فنراكم أهلاً لها.
لا شك إن لهذا الكلام وقعاً حلواً على الأذان, وله رنة في المنطق في ساحة الفكر, ولكنه يبدو أيضاً كبيراً ونظرياً, حيث يصعب تطبيقه. إذ كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من آثار الماضي وتجاربه؟ كيف يحصر كل سلبياته التي قد تكون حفرتها الأيام في نفسه وفكره وحياته كي يقتلعها؟ ثم كيف يزرع بدلاً عنها شجيرات جديدة من الإيجابية والمحبة والتفاؤل والأمل؟ إن التساؤل صعب, وقد تأخذ محاولة الإجابة عليه أياماً وشهوراً من عمر الإنسان حتى يدرك حقيقة الآثار التي يكون حملها معه في حاضره من مراحل حياته الماضية.
حاول "فرويد" علاج هذه المشكلة عن طريق التحليل النفسي من أجل مساعدة الإنسان على استرجاع تجارب طفولته التي تكون قد اختزنت في العقل الباطن واحتجبت عن مواطن الذاكرة والإدراك.
ونجح "فرويد" في علاج حالات من فقدان البصر والسمع والنطق والذاكرة, التي لم يولد بها أصحابها وإنما نجمت عن صدمات نفسية.
ولكن فعالية العلاج اقتصرت على فئات معدودة نظراً للفترة الزمنية الطويلة التي يتطلبها العلاج, بالإضافة إلى ضعف بعض الافتراضات النظرية التي ارتكز عليها منهج العلاج.
وهكذا يبقى منا المئات من الأفراد ممن يعانون من العمى والحرس والصمم وفقدان الذاكرة, ليس عضوياً وإنما معنوياً ووجدانياً ... هؤلاء كيف يكون علاجهم؟ كيف نطلب من الإنسان أن يحب وأن يغدق بالحنان بينما كانت طفولته محرومة منها؟ كيف نطلب من الإنسان أن يثق بغيره وذاكرته ما زالت تدير أمام عينيه شريط من خيانة أحب الناس إليه؟ كيف نطلب من الإنسان أن يؤمن بالصداقة ومشاعره ما زالت تتوجع من تنكر أعز الأصدقاء في أحلك الأوقات؟
هناك العديد من التساؤلات لأن هناك العديد من المآسي التي خلفت وراءها عشرات من النفوس الخائفة الحيرى.
نفوس تريد أن تتطلع, ولاكن كيف؟! كيف تثق لتتطلع! نفوس تحن إلى التلاحم, وتحن إلى الارتباط, ولكن كيف؟! كيف تثق لتمنح حنينها فرصة الانطلاق؟
إن تجارب الحياة الإنسانية حافلة بالبؤس والشقاء, ولكنها حافلة أيضاً بهؤلاء الذين استطاعوا أن يرفضوا البؤس ويتحدوا الشقاء. إن هؤلاء يرفضون النظر إلى أنفسهم كمجرد نتاج تفاعل ظروف الحياة وتلاعبها به. إنهم يرون أنفسهم إرادة بإمكانها أن تستوعب وتتفهم وتتغلب وتبني من جديد. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة من التوازن والاتزان كي يشعر بأنه على ما يرام وبخير؟ يتحقق ذلك عندما يواجه الإنسان حقيقة بسيطة ومهمة: وهي أنه هو المسؤول عن سلوكه وتعامله في حاضرة ومستقبله بصرف النظر عما يكون قد حدث له في الماضي.
إن تقبل الإنسان لهذه الحقيقة يساعده على تبديل الجوانب المعتمة في حياته بأخرى تكون أكثر إضاءة وإشراقة, وتنمي فيه القدرة على الضبط والتوجيه الذاتي, وبالتالي تمنحه فرصة اكتشاف حقيقة أخرى: وهي حقيقة حرية الاختيار. والمقصود بالاختيار هنا ليس اختيار الأشياء بقدر ما هو اختيار القرارات والاتجاهات والمواقف.
هكذا تشير لنا محاولات العلاج النفسي ـــ الاجتماعي الحديث, والتي تحول مساعدة الإنسان على تصفية نظرته لحاضرة من ترسبات الماضي, شريطة أن يتوالى هو الدور الرئيسي في العلاج, وأن يكون في مكتمل وعيه. وقد نشر الطبيب "توماس هاريس" حصيلة هذه التجارب في كتاب أسماه "أنا بخير .. أنتَ بخير".
إن حصيلة الحالات العديدة التي درسها هذا الطبيب تفيد بأن الإنسان العصري يتوجع بسبب اختفاء النظرة المسؤولة من مرئياته وبالتالي ضعف فيه الإحساس بالرغبة في مواجهة الصعاب, ومن تم ضعف الإحساس بالقدرة على إزالتها أو تحويل مجراها من حياته. إن مثل هذا الشعور بالعجز لهو من دواعي وهن النفس الإنسانية المعاصرة. إنها تفتقد إلى الإحساس بالإرادة. والإحساس بالإرادة يتولد عن وجود الدافع في نفس الإنسان ويبقى عليه قوياً إلى الإيمان بأهمية العمل المخلص وبجدوى الخير, وبأن كل في سلبية لا يمكن أن تضيع هباء. هنا فقط يتمكن الإنسان من أن يصبح حراً, وأن يتحرر من قيود الماضي التي تكون قد كلبته بمرارتها وقسوتها.
رائع ذلك الكتاب الذي استطاع أن يوجز كل هذه الأسطر في العبارة التالية:
"الحرية تعني حرية الإرادة .. الإرادة لا تستطيع أن تعمل إلا حين يكون هناك دافع .. الدافع ينتج عن الاعتقاد بأنه يمكن فعل شيء ما .. "
تحياتي .. ضياء