لماذا تعددت الرسالات . . .؟
مما ساقه القرآن الكريم من صور ونماذج لحياة الانبياء وطبيعة رسالاتهم ، وصراعهم مع أعداء الله نستطيع أن نكتشف سرَّ تعدد الرسالات واختلافها في بعض الجوانب ، ومن ثم نستنتج بصورة أدق لماذا تعدد الرسل والانبياء . . .؟
وقبل أن ندخل في هذا الموضوع لا بد لنا من أن نعرف أنه ليس جميع الانبياء لديهم رسالات خاصة بهم ، يبلغون الناس بها ويدعونهم اليها .
بل ان العددالاكبر من الانبياء ـ لم تكن لديهم رسالات خاصة بهم ـ وانما بعثوا داعين إلى إحياء رسالات الانبياء والرسل الذين سبقوهم ، بعد أن حصل الانحراف عنها ، واُدخل التزييف عليها .
لذا كان هؤلاء الانبياء دعاة اصلاح ، وهداية وتصحيح ضمن مناهج أنبياء سبقوهم ، وأصحاب رسالات تقدموا عليهم .
ونعود الان فنجيب على سؤالنا لماذا تعددت الرسالات . . .؟
ولماذا بعث الله سبحانه هذا العدد الكبير من الرسل . . .؟
ولم يكتف برسالة واحدة ، وبرسول واحد ، يتبعه الناس جيلاً بعد جيل . . .
وللاجابة على هذا السؤال علينا أن نتتبع الاسباب ، والدواعي التي نتج عنها تعدد الرسل ، واختلاف الرسالات من خلال النظر إلى تراكمات التاريخ ، وتحليل حياة الشعوب ، ومحتوى الرسالات . . . فبالقيام بمثل هذا العمل الاستقرائي نستطيع أن نستنتج ما يلي:
1 ـ ان سبب تعدد الرسالات ، والرسل والانبياء يعود إلى طبيعة الانسان المخاطب بهذه الرسالات والدعوات; فالناس ليسوا سواء في قابلياتهم ، واستعداداتهم الفكرية والجسمية والنفسية ـ من بداية نشأتهم حتى نهاية اكتمالهم على سطح هذا الكوكب لذلك كان الدين يسير مع تصاعد البشرية ، واكتمال نموها ، ونضج مداركها وحاجاتها ، كلما ترقت وتصاعدت حركة مسيرها . . . وتلك حكمة الله . . . ومظاهر عدله ، فهو العادل الحكيم ، الذي لا تتناقض إرادته ، ولا تتضارب غايته ، ولا يجور حكمه .
لذا جاءت التكاليف والتشريعات جميعها متناسقة مع قدرة الانسان وطاقته (لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاّ وسْعَهَا) ومحققة لخيره ومصالحه .
فعلى هذه القاعدة جرى التنسيق محكما بين مسيرة التكوين البشري وقواعد التشريع الديني بشكل بعيد عن التناقض أو التعارض .
وعلى هذه القاعدة أيضاً جاءت الرسالات الالـهية متفاوتة في سعتها ، ونوع معالجتها ، ومناهج تنظيمها ، لتشكل مراحل تأريخية متصاعدة في مسيرة الدين الواحد تتناسب مع صلاح البشرية ورقي الانسانية . . . ولذلك كانت كل رسالة في سلم الدعوات الالـهية هي أرقى وأكمل من الرسالة التي سبقتها في مسيرة الحياة .
2 ـ ان بعض الاقوام كانت تصاب بأمراض جاهلية - حسب ظروفها ، وبيئتها الطبيعية والاجتماعية ـ تختلف عن أمراض غيرها من الشعوب والامم; لذلك تأتي الرسالة الجديدة كعلاج يستهدف استئصال ذلك المرض ، وعمل رسالي موجه لاقتلاع جذور هذا الانحراف ، والعمل على تصحيحه; لاعادة الموازنة الطبيعية لحركة النفس ، والمجتمع ، ودفع الحياة باتجاهها الانساني السليم .
وقد حدثنا القرآن الكريم عن ظواهر جاهلية مرضية كثيرة ظهرت بصيغ وكيفيات متعددة على طول خط التاريخ ، وعلى عرض مساحة الحياة البشرية فساق لنا نماذج مختارة منها; كشواهد ودروس للعبرة والاتعاظ . فحدثنا عن الانحراف المالي والتجاري لقوم مدين ، والانحراف الجنسي لدى قوم لوط ، والانحراف المادي الجشع عند بني إسرائيل . . . الخ . لذا كانت رسالات أنبيائهم تنصب في جانب كبير منها على معالجة هذا المرض ، واقتلاع جذوره .
3 ـ ان تعدد الانبياء يفيد استمرار التذكير والتنبيه ، واستمرار عملية التفاعل الاجتماعي والاصلاحي مع الدعوة الجديدة ، وتأكيد هداية الانسانية ، وقيادتها على هدى الانبياء ، ليتم فضل الله ولطفه على الناس جميعاً ، ولتقوم حجته بينهم; فلا يعتذر أحد منهم يوم الحساب عن
جريمته ومعاصيه ، ولا يتذرع بالجهل وانعدام التذكير; قال تعالى:
(رُسُلاً مُّبَشَّرينَ وَمُنذِرينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً).(النساء/165)
4 ـ بعد اكتمال رشد البشرية العقلي ، ونموها النفسي كانت بحاجة إلى رسالة شاملة خالدة; تستوعب كل مظاهر التمدد والنماء في الحضارة المدنية ، ولديها القدرة على توجيه ، وقيادة قدرات الانسان ، وطاقاته المتنامية; لتمتد معه امتداداً زمنياً ، .مكانياً موازياً لحياته ، ودافعاً لها . . . والانسان في قمة تطوره ونضجه العقلي في هذه المرحلة ، يكون بحاجة إلى رسالة تخاطب العقل ، وتراعي نضجه ونموه .
ويكون العقل في هذه الحالة هو الرقيب ، والحجة على الانسان لان دور العقل مع وجود الشريعة هو دور الانبياء . . . فهو الدليل على صدقها ، والوسيط إلى فهم أغراضها ، وتقبل دعوتها... والداعي إلى الالتزام بها ، والعمل بمناهجها وحمل رسالتها .
والانسان في مرحلة نموه ، واكتماله العقلي والعلمي مؤهل لان يدرك بعقله ووعيه قيمة هذا الدين ، ويقتنع به . . .
لذلك أشادت السنة النبوية المطهرة بدور العقل ، ومكانته ومسؤوليته في هذا المجال اذ جاء في الحديث الشريف: (إن لله على الناس حجتين ، حجة ظاهرة وحجة باطنة; فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة ، وأما الباطنة فالعقول)(1) .
وهكذا يكون العقل هو الرسول الباطن للشريعة ، والداعية المواظب على اظهار عظمتها وقيمتها ، والمبرر الاول لدوام رسالتها ، وقيام حجتها في غيبة الرسل ، وانقطاع الانبياء .
أما المبرر الثاني لتمركز حجة الاسلام ، وانتصاب أدلته; فهم الدعاة وحملة الرسالة (الامِرُونَ باِلْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ); لانهم يؤدون دور الرسل ويسيرون على خط الانبياء .
لذا فإن الاسلام أوجب مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على أتباعه ، وخصوصاً العلماء الذين يتمتعون بالقابليات ، والمؤهلات العلمية والثقافية ـ ليقوموا بدور الانبياء في التبليغ ، والدعوة إلى الاسلام ، وارشاد الناس ، وهدايتهم ، واصلاحهم; قال تعالى:
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأمرُون باِلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكُرِ وأُولئك هُمُ الْمُفْلِحُونِ).(آل عمران/104)
فلذلك تعددت الرسالات ، وختمت برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي بلغ الدين بأرقى درجات تكامله الموازية لارقى درجات تكامل البشرية ونموها .
خالص تحياتى ....
المصدر الانسان والوجود...
مواقع النشر (المفضلة)